مجموع الأصوات: 54
نشر قبل 6 سنوات
القراءات: 6078

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

هل تغير العولمة من صورتها؟

أول مرة سمعت فيها للدكتور محمد عابد الجابري كان في مدرج كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم الفلسفة بجامعة دمشق، في أبريل 1995م، حين دعي لإلقاء محاضر حول الفكر القومي العربي: الحاضر والمستقبل وفي هذه المحاضرة اعتبر الجابري بأن أهم نجاحات الماركسية هو أنها نبهت الرأسمالية إلى نقاط ضعفها، فعملت هذه على تلافيها وطورت نفسها، فتجنبت المصير الذي تنبأت لها به الماركسية، لذلك فقد أفرزت الماركسية نقيض ما كانت قد قامت من أجله، وساعدت الليبرالية على إعادة بناء نفسها وتجنب نتائج أخطائها. وتنبهت إلى ضرورة الاهتمام بطبقة العمال، ووفرت لهم نظام التأمين الاجتماعي والصحي والتعليمي، وضمنت لهم حقوقهم، وحسنت من معيشتهم، بالشكل الذي لم يعد للماركسية أي تأثير عليهم.
هذا التاريخ كان قد بدأ مع بداية القرن العشرين بعد ظهور الرأسمالية في أوروبا، والذي أعقبه ظهور الماركسية التي عملت على مقاومة النظام والفكر الرأسمالي. هذا التاريخ يكاد يتكرر اليوم مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بعد ظهور العولمة، الوضع الذي يشابه إلى حد كبير وكأنه ظهور الرأسمالية أول مرة.
والماركسية التي سقطت بعد انهيار قلعتها العظمى في الاتحاد السوفيتي، وتفكك منظومتها الشرقية في أوروبا وتحولت إلى بقايا متناثرة كادت تتلاشى مع مرور الوقت، إلا أنها بعد ظهور العولمة بدأت تستعيد أنفاسها، وأخذت تتكتل من جديد، وترفع شعار مناهضة العولمة، الوضع الذي يشابه ظهور الماركسية أول مرة. وكما كانت الماركسية في السابق تحاول أن تدافع عن طبقة العمال وحقوقهم وتجد في الرأسمالية تعدياً على تلك الحقوق، ذلك الدور هو ما تحاول أن تقوم به اليوم جماعات اليسار المناهضة للعولمة والتي تتكتل للدفاع عن الفقراء والطبقات الضعيفة، والمحرومة والمهمشة حيث يجدون في العولمة بأنها تكرس الفروقات واللامساواة بين الأثرياء والفقراء، وبين عالم الشمال الذي يزاد غنى، وعالم الجنوب الذي يزداد فقراً، ولعل الذي سوف يتكرر مجدداً أيضاً، هو أن العولمة قد تغير من صورتها، وتبدل من فلسفتها ويعاد النظر في أهدافها وآلياتها وبرامجها. وليس بالضرورة أن تحصل هذه التغيرات في العولمة بما يشمل العالم برمته، وإنما قد تقتصر على حدود منشأها في أوروبا والغرب عموماً، بتحسين أحوال الطبقات الفقيرة والضعيفة هناك التي تضررت من العولمة، كما حصل مع الرأسمالية حين أولت الاهتمام بطبقة العمال هناك أيضاً بعد انبعاث الماركسية وخطابها الفكري والاقتصادي المتصادم مع الرأسمالية. وقد بدأت تظهر بعض الملامح والمؤشرات على مستوى الخطابات والبيانات والإعلانات والتقارير الإقليمية والعالمية، التي تلفت لانتباه إلى نوع من المراجعة وإعادة النظر والتفكير في العولمة وسياساتها وخططها وآلياتها والتأكيد على عدم العجلة والتسارع في حركتها، أو الإفراط في التفاؤل والتبجح بها، وجعلها أكثر توازناً وضبطاً وعدالة. لا اقل هكذا تصور تلك الخطابات والبيانات والتقارير.
ففي أبريل 1999م أعلن مسؤولوا البنك الدولي عن عزمهم لإعداد إطار تنموي جديد يركز على العوامل الاجتماعية والإنسانية. وصدر بهذا الخصوص تقرير إستراتيجي هو الأول من نوعه الذي يشرح رؤية البنك الدولي عن استراتيجيته الجديدة التي تؤكد على حماية الفقراء من مخاطر العولمة، وتمكين هؤلاء من الاستفادة من منافعها الاقتصادية، الأمر الذي يقتضي كما يشرح التقرير من الدول النامية تحسين شبكات الأمان الاجتماعي، وضرورة تحويل برامج الحماية لاجتماعية من أشكالها التقليدية التي تنحصر في تقديم المساعدة للفقراء إلى قواعد انطلاق تتيح للفقراء الخروج من دائرة الفقر والانتقال إلى حياة أكثر أماناً وصدر هذا التقرير في يناير 2001م.
وفي ديسمبر 1999م وخلال اجتماع منظمة التجارة العالمية الذي عقد في سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية، دعا وزير الاقتصاد الفرنسي آنذاك كريستيان سوتيه إلى اعتماد ميثاق للعولمة من أجل أن تلتزم جميع الدول باستراتيجية مشتركة للتنمية المتبادلة، واعتماد قواعد عادلة في حقل التجارة وحذر من اللامساواة التي يمكن للعولمة أن تخلقها على مستوى العالم. وفي يناير 2000م أطلقت الأمم المتحدة موقعاً على شبكة الإنترنت لغرض أن تستخدمه المؤسسات الكبرى والنقابات لتبادل وجهات النظر حول المشاكل المتعلقة بالعولمة. وكان الهدف الرئيسي لهذا الموقع هو تحسين القيم العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان وقوانين العمل والبيئة.
وفي مؤتمر الأمم المتحدة العاشر للتجارة والتنمية اونكتاد الذي عقد في فبراير 2000م. بالعاصمة التايلندية بانكوك، دعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في كلمة الافتتاح إلى ضرورة تقاسم فوائد العولمة بالتساوي بين الجنوب والشمال. وكان الهدف الرئيسي لهذا المؤتمر هو إشراك الدول الأكثر فقراً في العولمة.
وبمناسبة اختيار برنامج الأمم المتحدة للتنمية، باريس لإصدار تقريره السنوي حول التنمية، في يونيو 2000م، اعتبر الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأن العولمة قد تكون خيرة وشريرة ولذا من الضروري أنسنتها والسيطرة عليها.
وقد أطلق منتدى دافوس العالمي سنة 2000م على أعماله شعار العولمة المسؤولة أو العولمة الرؤوفة. أما شعاره سنة 2001م فكان بعنوان دعم النمو وتجاوز الفروقات بين الأغنياء والفقراء، ومن الموضوعات التي ناقشها في دورته الأخيرة التي عقدت ما بين 23-28 كانون الثاني يناير 2003م، موضوع مدى إمكانية أن تكون العولمة أخلاقية.
وجاء في إعلان الألفية الذي صدر عن قمة رؤساء دول العالم الذي دعت إليه الأمم المتحدة في سبتمبر 2000م، بأن التحدي الرئيسي الذي يجب أن نواجهه اليوم هو أن تتحول العولمة إلى سلاح إيجابي من اجل الإنسانية جمعاء.
أما المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد بمدينة كانكون المكسيكية في فبراير 2001م، فقد كان موضوعه الأساسي مناقشة الفجوة القائمة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، واعترف الحاضرون بأن بعض الانتقادات التي وجهها معارضو العولمة يمكن الأخذ بها.
هذه بعض الشهادات والقرائن التي تشير إلى إمكانية أن تغير العولمة من صورتها المخيفة والمتوحشة والاستلابية إلى صورة أخرى أقل بطشاً وسيطرة وترهيباً. تبقى هذه القضية داخلة في دائرة الإمكان وليس في دائرة الوجوب والتحقق الفعلي، لكن هذا ما تطمح إليه ضمائر العالم ونداء الحكماء، وتبقى القضية في دائرة الأمل1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الثلاثاء 4 فبراير 2003 م، العدد13310.