حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
طلب الحقيقة في زمن العتمة
في كتابه (ليطمئن قلبي)، كشف الدكتور محمد الطالبي عن تجربته الفكرية والدينية التي مر بها، والمآلات التي انتهى إليها، وثبت عليها في نهاية المطاف، واضعاً هذه التجربة في سياق البحث عن طلب الحقيقة، سعياً ورغبة لتحقيق ما يطمئن إليه قلبه، وهذا ما يصبو إليه الإنسان الباحث عن الحقيقة.
تجربة فكرية طويلة مر بها الدكتور الطالبي، تمتد لما يزيد على ثمانية عقود من الزمان، ترجع إلى ما قبل الاستقلال حين كانت تونس تحت الاستعمار الفرنسي، وفي وقتها كان طالباً، ثم معلماً للمرحلة الابتدائية، وقد عرف عن الاستعمار الفرنسي خصوصية التركيز على الثقافة، لكونه يربط احتلال الأرض باحتلال العقول، وبهذا النمط من الاحتلال يكرس التبعية الدائمة والمستمرة، ويجذرها ويبقيها إلى ما بعد الانسحاب من الأرض.
وخلال هذه التجربة، عاصر الدكتور الطالبي ثورة الاتجاهات والتيارات الفكرية والفلسفية التي عصفت بالعقول وفعلت فعلها في النفوس، ومرت عليه حسب قوله الاستفهامات الحديثة المقلقة التي أرخت سدولها عليه لتبتليه، وبات معها الإنسان المسلم في القرن الحادي والعشرين أكثر حزناً مما كان عليه في القرن العشرين.
ومع هذا الحال فرضت عليه نفسه كما يقول الدكتور الطالبي، أن يحصحص ما حصل في الصدور طوال ما يزيد على نصف قرن، كي يجيب على السؤال المقلق الذي يصطدم به يوماً كل إنسان له شيء من الوعي عندما يصل إلى نقطة الاختيار، النقطة التي يكون فيها الإنسان بعد ما استنهك كل قواه الفكرية يختار مصيره وسبيله إما شاكراً وإما كفوراً.
وعند سعيه وطلبه للحقيقة وجدها الدكتور الطالبي في القرآن الكريم، ونص كلامه (نحن طلاب حقيقة وجدناها في القرآن.. ذلك أننا وجدنا ما ثبت عندنا أنه الحقيقة في القرآن، بعد مراجعة وطلب في غير القرآن من كتب مقدسة وغير مقدسة، إيماننا ليس إيمان تبعية وتقليد، وإنما هو إيمان اضطلاع بالنفس بعد بحث وروية).
لهذا فقد جاء كتابه مفعم بالآيات القرآنية التي تجلت بكثافة كبيرة في صفحات الكتاب من البداية إلى النهاية، وشكلت سمة بارزة في بنية الكتاب وأطروحته، وبطريقة ليست معهودة على الإطلاق عند قطاع كبير من المثقفين والكتاب والأكاديميين العرب والمسلمين، وذلك في إشارة من الدكتور الطالبي للتأكيد على أنه وجد ضالته، والحقيقة التي كان يطلبها في القرآن الكريم.
وهذه الملاحظة من السهولة اكتشافها والتعرف عليها لكل من يرجع إلى الكتاب أو يقلبه، وذلك لشدة ظهورها، ولأن المؤلف كان واضحاً في التعاطي معها، ومتقصداً تسليط الضوء عليها، ويكفي ما أشار إليه المؤلف في السطر الأول من الكتاب، حين أراد توضيح أنه لا يقصد الدفاع عن القرآن، لأن القرآن حسب قوله، يدافع عن نفسه ولا حاجة له إلينا، وإنما الحاجة حاجتنا إليه، فهو الذي هدانا، ونحن المدينون للقرآن، وليس القرآن بمدين إلينا.
والحقيقة التي يطلبها الدكتور الطالبي لا تعني عنده الادعاء بتملك الحقيقة، لأن الحقيقة في نظره تملك ولا تملك، ولا تعني كذلك أنه في شك من أمره، ومما أنعم الله عليه من الهداية والإيمان، ولكن ـ والكلام للطالبي ـ حيث الله هو الحق فإن التوق إلى الله رحيل بلا نهاية، وطلب يغذيه وخز السؤال الذي لا يهدأ.
وهذه الحقيقة التي يطلبها الدكتور الطالبي لا تخرج به عن الحداثة، لأن طلب الحقيقة في نظره هو عين الحداثة وغايتها، والمسلم حسب قوله، لا يستطيع اليوم أن يهتدي بهدى الله، ويستنير بنور كتابه ما لم تكن له ثقافة علمية تواكب العصر بالقدر الذي يستطيعه.
وبهذا الموقف يكون الدكتور الطالبي قد ضرب مثلاً للمفكرين الذي يطلبون الحقيقة، ويبحثون عنها في هذا الزمن، زمن العتمة!1
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 4 ديسمبر 2008م، العدد 15440.