الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

لماذا قبل الامام الرضا ولاية عهد المأمون ؟

نص الشبهة: 

لماذا قبل الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية عهد المأمون ، وإذا كان مضطراً إلى ذلك فكيف استجاب لتحديه ؟

الجواب: 

الإمام يستجيب للتحدّي :
قبل أن نجيب عن هذا السؤال لابد أن نلقي نظرة إلى واقع الحركة الرسالية عندما تولى الرضا مركز الإمامة من بعد والده الإمام الكاظم ( عليهما السلام ) .
في حديث شريف : كان من المقدر أن يكون الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو قائم آل محمد إلاّ أن الشيعة أذاعوا الأمر فبدا لله فتأخر إلى أجل غير مسمى .
وهذا يعني أن الحركة الرسالية كادت تبلغ يومئذ إلى مستوى التصدي لشؤون الأمة . وبالرغم من أن الإمام الكاظم (عليه السلام) قضى نحبه في سجن هارون مسموماً ، إلاّ أن الحركة لم تصب بأذى كثير كما نستفيد ذلك من حديث شريف .
وهكذا كانت إمامة الإمام الرضا (عليه السلام) واحدة من فرصتين :
الأولى : القيام بحركة مسلحة قد تنتهي إلى دمار الحركة .
الثانية : الإستجابة لتحدي المأمون بقبول ولاية العهد للعمل من خلال السلطة دون إعطاء شرعية لها، كما فعل النبي يوسف حينما طلب من عزيز مصر بأن يجعله على خزائن الأرض . ثم قام بما استطاع إليه سبيلا ، من الإصلاح من داخل النظام ..
وكما فعل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الخلفاء الذين سبقوه عندما قبل بالدخول في الشورى كواحد من ستة أعضاء .
وأقل ما في هذه الفرصة الثانية أنها تشكل حماية للحركة الرسالية من التصفية ، والقبول بها كحركة معارضة رسمية .
وهكذا نعرف أن الإمام لم يترك قيادته للحركة الرسالية ـ بل استفاد من مركزه الجديد ، كما استفاد الشيعة لدعم مسيرة حركتهم الرسالية التي فرضت نفسها على النظام فرضاً .
ولتحقيق هذه الغايات اتبع الإمام النهج التالي :
أولاً : امتنع عن قبول الخلافة التي عرضها عليه المأمون أولاً ، ولعل السبب في رفض الخلافة كان أمرين :
أ : إن تلك الخلافة كانت ثوباً خاصاً بأمثال المأمون وإنها لا تليق بحجة الله البالغة ، لأن بنائها كان قائماً على أساس فاسد ، جيشها ونظامها وقوانينها وكل شيء فيها ، ولو قبل الإمام بها كان عليه أن يهدمها ويبنيها من جديد ولم يكن ذلك أمراً ممكناً في تلك الظروف .
باء : إن المأمون لم يكن صادقاً في عرضه ، فهو كان يدبر حيلة مع حزبه الماكر للإيقاع بالإمام إن قبل ، بعد أخذ الشرعية منه ، كما فعل بالنسبة إلى ولاية العهد .
ثانياً : اشترط في قبوله لولاية العهد ألاّ يتدخل في شؤون الدولة من قريب أو بعيد ، مما أفقدهم القدرة على تمشية الأمور باسم الإمام وكسب الشرعية له وأبان للعالمين ذلك اليوم وللتاريخ إلى الأبد أنه لا يعترف بشرعية النظام بأي وجه . وقد حاول المأمون مراراً أن يستدرج الإمام للتدخل في الشؤون فلم يقبل والحديث التالي يدل على ذلك :
إن المأمون لمّا أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بإمرة المؤمنين ، وللرضا (عليه السلام) بولاية العهد ، وللفضل بن سهل بالوزارة ، أمر بثلاثة كراسي فنصبت لهم ، فلما قعدوا عليها أذن للناس ، فدخلوا يبايعون فكانوا يصفقون بأيمانهم على أيمان الثلاثة من أعلى الإبهام إلى الخنصر ويخرجون حتى بايع في آخر الناس فتى من الأنصار فصفق بيمينه من الخنصر إلى الإبهام ، فتبسم أبو الحسن الرضا (عليه السلام) ثم قال : " كل من بايعنا بايع بفسخ البيعة غير هذا الفتى فإنه بايعنا بعقدها " .
فقال المأمون : وما فسخ البيعة من عقدها ؟ قال أبو الحسن (عليه السلام) :
" عقد البيعة هو من أعلى ا لخنصر إلى أعلى الإبهام وفسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر " .
قال : فماج الناس في ذلك وأمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن (عليه السلام) وقال الناس : كيف يستحق الإمامة من لا يعرف عقد البيعة ، إن من علم لأولى بها ممن لا يعلم ، قال : فحمله ذلك على ما فعله من سمه 1 .
ثالثاً : منذ الأيام الأولى لولايته للعهد انتهز الإمام كل فرصة ممكنة لنشر بصائر الوحي ، وأظهر أنه أحق بالخلافة من غيره ، فمثلاً نقرأ في وثيقة ولايته للعهد ما يدل على أن المأمون إنما عمل بواجبه في الأحتفاء بأهل بيت الرسالة ، دعنا نقرأ ونتدبر معاً الوثيقة التالية :
" بسم ا لله الرحمن الرحيم الحمد لله الفعّال لما يشاء لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وصلى الله على نبيّه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين .
أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر أن أمير المؤمنين عضّده الله بالسداد ووفقَّه للرشاد ، عرف من حقنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاماً قطعت ، وآمن نفوساً فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغياً رضى رب العالمين ، لا يريد جزاء من غيره ، وسيجزي الله الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين .
وإنه جعل إلي عهده ، والأمرة الكبرى إن بقيت بعده ، فمن حل عقدة أمر الله بشدها ، وقصم عروة أحب الله إيثاقها ، فقد أباح حريمه ، وأحل محرمة ، إذ كان بذلك زارياً على الإمام ، منتهكاً حرمة الإسلام ، بذلك جرى السالف ، فصبر منه على الفلتات ، ولم يعترض بعدها على العزمات خوفاً على شتات الدين ، واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر الجاهلية ، ورصد فرصة تنتهز ، وبائقة تبتدر .
وقد جعل لله على نفسي أن استرعاني أمر المسلمين ، وقلَّدني خلافته ، والعمل فيهم عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) وأن لا أسفك دماً حراماً ولا أبيح فرجاً ، ولا مالاً إلاّ ما سفكته حدوده ، وأباحته فرائضه ، وأن اتخير الكفاة جهدي وطاقتي ، وجعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكداً يسألني الله عنه ، فإنه عزّ وجلّ يقول : ﴿ ... وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً 2 .
وإن أحدثت أو غيّرت أو بدَّلت كنت للغير مستحقاً ، وللنكال متعرضاً ، وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته ، والحول بيني وبين معصيته في عافية لي وللمسلمين .
والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك ، وما أدري ما يفعل بي ، ولا بكم إن الحكم إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين .
لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه ، والله يعصمني وإياه ، وأشهدت الله على نفسي بذلك ، وكفى بالله شهيداً " 3 4 .

  • 1. بحار الأنوار : ج 49 ص 144 .
  • 2. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 34 ، الصفحة : 285 .
  • 3. المصدر : ص 152 ـ 153 .
  • 4. الإمام الرضا ( عليه السلام ) قدوة وأسوة ، الفصل الثاني ، لآية الله السيد محمد تقي المدرسي ، الناشر : مكتب آية الله المدرسي ، القطع : رقعي ، الطبعة الخامسة .