الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

اصطناع مشكلة الحجاب في فرنسا

وأخيراً قررت فرنسا حسم موقفها السياسي والديني من مسألة الحجاب الإسلامي الذي ظل في دائرة الجدل، ولمدة طويلة هناك، منذ تسعينيات القرن العشرين، بعد موافقة الرئيس جاك شيراك على توصية لجنة تطبيق مبدأ العلمنة في الجمهورية الفرنسية التي شكلت لغرض تحييد الدين من التدخل في الشؤون العامة للدولة. وضمت هذه اللجنة في عضويتها عشرين باحثاً وخبيراً فرنسياً بينهم اثنان من أصول عربية وإسلامية، وكانت برئاسة برنار ستازي، وأعدت تقريراً يقع في 67 صفحة إلى جانب بعض الملاحق الأساسية، وذلك بعد أن استمعت إلى مئات الشهادات من سياسيين وتربويين وإعلاميين ونقابيين وإلى طلبة في داخل فرنسا وخارجها، كما صرح بذلك رئيس اللجنة في مؤتمر صحفي عقده للإعلان عن صدور هذا التقرير الذي رفع لرئيس الجمهورية في 11 ديسمبر2003.
وفي الخطاب الذي ألقاه جاك شيراك بناء على صدور ذلك التقرير أعلن موقفه بصراحة حينما قال (إنني أرى أنه ينبغي أن يحضر في المدارس ارتداء الأزياء أو وضع الرموز التي تفصح بطريقة تلفت الأنظار عن الانتماء الديني.. ومن الضروري سن قانون لهذا الغرض) كما دعا إلى إقامة مرصد للعلمنة، وإلى كتابة ميثاق العلمنة، وحث وزيري العمل والشؤون الاجتماعية إلى صياغة نصوص تحفظ العلمنة كل في ميدان اختصاصه.
ومع أن اللجنة خاطبت أصحاب الديانات الثلاث الرئيسية هناك، وهي المسيحية واليهودية والإسلامية، وحاولت تحاشي اعتبار القانون المقترح موجهاً ضد المسلمين، مع ذلك فإن الجميع يدرك بأن الوجود الإسلامي هناك هو المستهدف الحقيقي من توصيات التقرير. لأن هذه اللجنة شكلت أساساً على خلفية المواقف والمشكلات التي أثيرت حول الحجاب الإسلامي في المدارس وأماكن العمل. ومن جهة أخرى أن الوجود الإسلامي الذي يقدر تعداده في فرنسا بخمسة ملايين ويشكل ما نسبته سبعة بالمائة من إجمالي السكان، هو الوجود الأكثر تضرراً من صدور ذلك التقرير لأنه يفتقد لعناصر القوة، ولضمانات الحماية من التعسف والانتهاك لحقوقه، ولأسباب عديدة يفترض أنها واضحة ومفهومة.
وقد فتح هذا التقرير نقاشات واسعة، وانقسمت تجاهه المواقف ووجهات النظر، ومن أكثر المواقف وضوحاً وتعبيراً ما تحدث به مولود عونيت رئيس حركة مكافحة العنصرية والصداقة بين الشعوب حيث اعتبر أن القانون الذي أوصت به لجنة الحكماء حول العلمانية أنه غير مفيد وغير مجد.. وأن لا شيء اليوم حسب قوله يبرر تبني قانون، لنحو عشر حالات للحجاب الإسلامي بينما تجري تسوية معظم الحالات بالحوار، وأشار بوضوح إلى أن الدين المستهدف هو الإسلام، وعبر عن خشيته من أن تتغلب النزعة إلى الإقصاء على الحوار وذلك في ظروف متوترة أصلاً، ولن يمكن لقانون مثل هذا من تحسين العلاقات.
والحقيقة أن هذا التقرير أظهر مبالغة في تصوير الهواجس والمخاوف، وأفرط في تصوير التفسيرات والتأويلات بشأن الحجاب الإسلامي وكأنه تحول إلى مصدر تهديد لعلمنة الدولة، وانتهاك لقوانين الجمهورية الصارمة في الفصل بين الدين والدولة. فهل هذا له واقع بالفعل؟ أم هو التبرير النمطي الجاهز والسهل، والذي يختزل قوة التحريض، وقوة تعبئة الرأي العام بالممانعة وتشكيل الموقف المضاد والرافض لمسألة الحجاب. وهذا التقرير حسب رؤية خطاب الكنائس المسيحية هناك والموجه للرئيس الفرنسي بهذا الخصوص سوف يعزز من مشاعر المسلمين بأنهم مرفوضون من المجتمع. الشعور الذي يحبط أي استعداد بالاندماج، ويكرس نزعات القطيعة والانغلاق بين مكونات المجتمع الفرنسي. وهناك من يرى بأن هذه الخطوة سوف تغير من صورة فرنسا التي تفخر بوصفها مجتمع المساواة والإخاء والحرية، والذي يندمج فيه المهاجرون بشكل أفضل من بلدان غربية أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية. كما يغير من صورة فرنسا التي أرادت أن تقدم نفسها إلى العالم من خلال الدعوة إلى حوار الثقافات، واحترام التنوع الثقافي، والدفاع عن التعددية الثقافية، في مقابل الصورة المتشكلة عن الولايات المتحدة والعالم السكسوني بصفة عامة والذي برزت فيه دعوات مثل صدام الحضارات. وفرنسا التي طالما حاولت أن تنفرد بخطاب يؤسس لبناء جسور التواصل الثقافي بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية، وبين العالمين العربي والأوروبي، والذي يتفهم بعمق جوهر الحضارة الإسلامية، وباستمرار كان الرئيس شيراك يتحدث عن مثل هذه التصورات، وهكذا وزير خارجيته دومينيك دو فيليبان، فهل هناك تطابق بين هذه الصورة، وبين الموقف الذي لا يستطيع أن يتفهم أو يتكيف مع ظاهرة حميدة مثل ظاهرة الحجاب الإسلامي؟ أم هناك تصادم بين هاتين الصورتين؟
والغريب في الأمر أن الصورة النمطية القديمة والتقليدية المتشكلة في العقل الأوروبي حول مسألة الحجاب مازالت شديدة الفاعلية في تشكيل المواقف الراهنة، فالتصورات التي يعبر عنها اليوم حول الحجاب تطابق تماماً تلك التصورات النمطية القديمة.
وبدل أن يفهم الحجاب بأنه يرمز للطهارة والنزاهة والعفة، وأنه مصدر حماية للمرأة، ويعزز من الأمن الاجتماعي والأخلاقي للمرأة والمجتمع، ويظهر شخصية المرأة كإنسانة وليست كمجرد أنثى، وهذه القيم هي من أكثر ما تحتاج إليها المجتمعات الأوروبية المعاصرة مع ذلك تنقلب الصورة ويفهم الحجاب على أنه يرمز إلى قهر وظلم المرأة، ووسيلة لخضوع المرأة إلى الرجل، وأنه يتناقض مع العدالة بين الجنسين إلى غير ذلك. فالمشكلة إذا في انقلاب هذه الصورة1!

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 24 ديسمبر 2003م، العدد 13633.