الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الخطاب الديني و التحديات الداخلية

الخطاب الديني و التحديات الداخلية .
دعاة التشدد و الغلو يستثيرون عواطف العامة .
ينبغي إنتاج خطاب يساعد على الانفتاح و الحوار الودي مع الآخر .
الأمة أشد حاجة اليوم إلى ثقافة العلاقة الإيجابية مع الآخر الداخلي .
إن خطر توجهات الغلو كبير على مستقبل الإسلام و الأمة .
هناك خطباء متمرسون في إذكاء الخلافات الطائفية ، و محترفون لإثارة الكراهية و البغضاء بين أبناء الأمة .
كان التحدِّي الأكبر أمام الخطاب الإسلامي في حقب ماضية هو مواجهة التيارات المناوئة للإسلام .
ففي بدايات القرن التاسع عشر الميلادي أدرك دعاة الإسلام خطر حملات التبشير التنصيري التي واكبت الاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية ، و كان إلى جانبها نشاط استشراقي مكثف يهدف إلى تشكيك المسلمين في دينهم ، و إثارة الشبهات حول القرآن الكريم ، و سيرة النبي ، و المفاهيم و التشريعات الإسلامية ، طفحت به كتب كثير من المستشرقين و دراساتهم .
فانبرى المخلصون الواعون من علماء الأمة بألسنتهم و أقلامهم و أرواحهم لردّ هذه الهجمات العاتية ، و بذلوا قصارى جهدهم للوقوف أمام تلك الموجات العارمة ، رغم محدودية إمكاناتهم قياساً بقدرات الغزاة الذين يستندون إلى ميزانيات ضخمة ، و هيمنة عسكرية سياسية ، و مراكز أبحاث و تخطيط .
و في العقود الأولى من القرن العشرين للميلاد ، كانت هناك معركة أخرى تنتظر دعاة الإسلام ، هي أشد شراسة من حملات التنصير و شبهات الاستشراق ، و هي مواجهة المدّ الشيوعي و التيارات العلمانية المناوئة للدين . ذلك أن معظم التيارات العلمانية التي ظهرت في البلاد الإسلامية ، أخذت منحى المحاربة و المناوأة للدين ، بخلاف معظم تيارات العلمانية في الغرب التي التزمت الحياد تجاه الدين .

الخطاب الإسلامي يواجه تحديات هي الأخطر على مستقبل الإسلام و الأمة

فقد استثمرت هذه التيارات المناوئة أرضية السخط و الرفض للواقع السيئ المتخلف لدى جماهير الأمة ، و تبنت شعارات الثورة و النهوض ، داعية إلى التنكر للدين و التخلص منه ، لأنه يتحمل مسؤولية تخلف الأمة و انحطاطها . و تمكنت هذه التيارات من استقطاب شرائح من أبناء الأمة ، و وصلت إلى مواقع السلطة و الحكم في عدد من البلدان العربية و الإسلامية ، عبر الانقلابات العسكرية ، و التنظيمات الحزبية .
فكانت المعركة عنيفة قاسية في بعديها الفكري و السياسي ، حيث عانى دعاة الإسلام من قمع الأنظمة التي انبثقت من هذه التيارات المناوئة .
و ما كاد ينتهي القرن العشرون حتى انحسر مدّ تلك التيارات ، و ظهرت طلائع الصحوة الإسلامية ، و ارتفعت رايات الإسلام في كل مكان ، إذ استعادت جماهير الأمة ثقتها بدينها ، بعد أن وجدت تلك التيارات ﴿ ... كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ... 1 ، و هكذا بدأ عصر الإسلام من جديد .
و هناك تحديات خارجية لا تزال قائمة أمام الخطاب الإسلامي ، و في طليعتها الحرب الإعلامية الثقافية الطاحنة على الإسلام ، بوصفه دين إرهاب و عنف ، التي تجاوزت كل أعراف و تقاليد العلاقات بين الأديان و الحضارات و الأمم ، كما تمثل ذلك في الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد ( صلى الله عليه و آله) ، التي نشرتها صحيفة دنماركية ثم أعادت نشرها هذا العام عدد من الصحف في الدول الأوروبية ، في تحدٍّ سافر لمشاعر المسلمين ، و إساءة صارخة لدينهم و هويتهم .
لكن مثل هذه التحديات الخارجية ليست على درجة كبيرة من الخطورة تستلزم وضعها على رأس التحديات و أولويات المهام أمام الخطاب الإسلامي .
إنني اعتقد أن الخطاب الإسلامي يواجه الآن تحديات داخلية هي الأهم و الأخطر على مستقبل الإسلام و الأمة . فلا بد من الاستجابة لها و الارتقاء إلى مستوى مواجهتها .
و لعل من أبرز وجوه هذه التحديات ما يلي :
أولاً : إنتاج ثقافة التنمية و البناء :
فقد برع الخطاب الإسلامي في تعبئة جماهير الأمة ضد الأعداء ، و ضد واقع الفساد و الانحراف ، و تلك مهمة هدم و تقويض .
و لكن ما البديل الذي يجب أن تتجه الأمة لبنائه على الصعيد السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ، و بناء المعرفة و تنمية الأخلاق ؟ و كيف يقود الإسلام معركة التنمية و البناء ؟
هذا ما يحتاج إلى إجابة معمقة تتضمن برامج عمل ، و آليات تنفيذ ، و ثقافة حركة و إدارة .
ثانياً : العلاقة الإيجابية مع الآخر :
المصالح في عالم اليوم متشابكة ، و الصراع والنزاع ليس هدفاً و لا استراتيجية دائمة ، و إنما هو ضرورة بمقدار مواجهة العدوان . كما أن الإسلام رسالة خير و رحمة للبشرية جمعاء .
من هذا المنطلق لا بد من إنتاج خطاب يساعد على الانفتاح و الحوار مع الآخر ، و لابد من نشر ثقافة دافعة لصنع العلاقات الإيجابية مع الغير ، و لتجاوز آثار مراحل الصراع و النزاع .
دعاة الإسلام عانوا من قمع الأنظمة التي انبثقت من التيارات المناوئة .
صحيح أن هناك اعتداءات لا تزال قائمة ضد الإسلام و الأمة ، لكن المطلوب حصر المواجهة و الصراع مع الجهات المباشرة للعدوان دون استعداء للعالم كله ، و تعميم الصراع على مستوى الأديان و الحضارات .
و الأشد إلحاحاً حاجة الأمة إلى ثقافة العلاقة الإيجابية مع الآخر الداخلي ، حيث لا نزال نعيش آثار الصراعات القديمة التي حصلت بين الأسلاف في القرون الأولى لتاريخ الأمة ، و التي تتفجر اليوم على شكل فتن و نزاعات طائفية . كما لا يزال التنوع القومي و القبلي عائقاً أمام الوحدة الوطنية ، و الاستقرار السياسي ، في عدد من البلدان العربية و الإسلامية .
ثالثاً : ترشيد التوجهات و الممارسات الدينية :
فالإقبال على الدين ، و ارتفاع المعنويات في أوساط المتدينين ، قد يدفع باتجاه الغلو و المبالغة في التوجهات و الممارسات الدينية ، خاصة و أن في تراث الأمة بمختلف مذاهبها ما يغذي مثل هذه الاتجاهات .
كما أن بعض القوى الدينية التقليدية التي لا تمتلك مشاريع للتنمية و النهوض ، قد تسعى لدغدغة مشاعر العامة ، و عواطفهم الدينية ، لتعزيز نفوذها و مواقعها ، في مقابل صعود قوى الإصلاح و التطوير .
و ليس مستبعداً أن تدخل على الخط بعض الجهات الخارجية ، أو بعض القوى المصلحية في الداخل لتشجيع اتجاهات المبالغة و الغلو في الأوساط الدينية .
إن خطر توجهات الغلو كبير على مستقبل الإسلام و الأمة ، و لذلك حذّر الله تعالى الأمم السابقة من الغلو في الدين ، يقول تعالى : ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ ... 2 .

و تتمثل أهم مظاهر خطر الغلو في النقاط التالية

أ ـ تحريف المفاهيم ، و إفراغ الأحكام الشرعية من مضامينها ، و الابتعاد عن مقاصد الدين و أهدافه ، و إشغال الأمة بحالة طقوسية فارغة ، تستنزف الجهود ، و تصنع حالة من الإشباع الكاذب ، و الشعور الزائف بأداء الواجب نحو الدين .
ب ـ الاستغراق في الجوانب الغيبية على حساب العقل و مراعاة السنن الإلهية للطبيعة و الحياة ، مما عزَّز حالة التواكل و الكسل ، و عدم البحث الموضوعي و المعالجة الواقعية لمشكلات الحياة ، و فتح المجال أمام أسواق الشعوذة و الدجل ، التي تدّعي القدرة على تقديم مختلف العلاجات للأمراض الجسمية ، و المشكلات النفسية ، و القضايا الاجتماعية .
ج ـ تشجيع التطرف و التشدد تجاه الآخر الخارجي و الداخلي ، انطلاقاً من تفاصيل الخلافات العقدية و التاريخية ، و إغفال مساحات الالتقاء و الاشتراك ، لقد أصبح عندنا خطباء متمرسون في إذكاء الخلافات الطائفية ، و محترفون لإثارة الكراهية و البغضاء بين أبناء الأمة ، و قد منحتهم القنوات الفضائية أفضل الفرص لرفع أصواتهم و بث سمومهم في مختلف الأرجاء .
د ـ ممارسة الإرهاب الفكري تجاه أيِّ رأي مخالف و اتهامه بالمروق و الابتداع ، مما يوقف حركة الاجتهاد ، و مسيرة التطوير و التجديد .
إن هذه التحديات الداخلية توجب على العلماء و الدعاة المدركين لها أن يوجهوا خطابهم و اهتمامهم نحو مواجهتها ، و تبصير جماهير الأمة بما يخدم مصلحتها ، و يصون رسالتها الإسلامية العظيمة عن عبث الغالين و المتزمتين .
و لاشك أنها مهمة شاقة تكتنفها صعوبات بالغة ، لأن دعاة التشدد و الغلو يستثيرون عواطف و مشاعر العامة الدينية ، و يستندون إلى آراء و تبريرات لها جذورها في التراث المذهبي لمختلف الطوائف و المذاهب ، و يظهرون أنفسهم حماة للعقيدة و حراساً لشعائرها ، و لا يتورعون عن التشكيك في دين من يختلف معهم و لو في أدنى التفاصيل .

الدعوة على بصيرة

لقد تحدث النبي بأمر الله تعالى له ، عن أهم سمة لمنهجه في الدعوة إلى الله ، و هي امتلاك البصيرة ، يقول تعالى : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 3 .
و البصيرة من البصر و الإبصار ، فكما يحتاج الإنسان إلى حاسة البصر ليرى الأشياء المادية في هذه الحياة ، و ليتمكن من السير في طرقها متلافياً الضياع و الوقوع في الحفر و المزالق ، كذلك يحتاج إلى المعرفة و الوعي لتقويم الآراء و الأفكار ، و التمييز بين مسالك الخير و مهاوي الشر و الفساد . و تلك هي البصيرة .
وكون الداعي على بصيرة في دعوته يعني أمرين :
الأول : اطمئنانه للفكرة و وضوحها عنده ، حيث لا يصلح للداعي أن يطرح فكرة لم يجتهد في بحثها ، ولم يتأكد من صحتها ، و لا ينبغي له أن يجترّ في خطاباته طرح ما هو سائد و متناقل دون تحقيق و تمحيص .
و من المؤسف جدّاً أن تجد بعض العلماء و الدعاة ينقلون للناس روايات تاريخية ، و آراء عقدية ، و مسائل ذات تأثير في أذهان الناس و سلوكهم ، قبل أن يكلفوا أنفسهم عناء التأكد من صحة تلك النقولات ، اتكالاً على ما سمعوه من خطباء آخرين ، أو أخذاً من مصادر غير معتمدة ، أو استجابة لرغبة المستمعين .
إن وسائل البحث و أدوات المعرفة أصبحت متوفرة و مبذولة ، فلا عذر للمقصرين و المتقاعسين .
الآخر : معرفة الواقع الخارجي الذي تلامسه الفكرة المطروحة ، فليست كل فكرة صحيحة صالحة للعرض في كل زمان و مكان ، و لعل المقصود بالحكمة في الدعوة في نص الآية الكريمة : ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ... 4 هو اختيار القول المناسب للموقع المناسب .
من هنا يحتاج الدعاة في كل مجتمع إلى تقويم ظروف مجتمعهم ، و دراسة أوضاع البيئة التي يتحركون فيها ، لينطلق خطابهم الديني من خطة مدروسة ، و ليركزوا على الأولويات .
و قد تحدث العلامة الشيخ عبدالله العَلَمي الغزّي الدمشقي أستاذ دروس التفسير في الجامع الأموي بدمشق المتوفى سنة 1355هـ 1936م حول هذه الآية الكريمة : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ... 5 في كتابه القيم ( مؤتمر تفسير سورة يوسف ) فقال تحت عنوان ( أكثر دعاة أهل اليوم هم على غير بصيرة ) :
( النبي عليه الصلاة و السلام ، كان يدعو إلى الله على بصيرة ، و هكذا خلفاؤه و علماء السلف و الأئمة المجتهدون و سائر العلماء الصالحين ، و لكن من المؤسف ، أن أكثر دعاة أهل اليوم ، هم على غير بصيرة ، لأنهم مزجوا الدخائل بعقائد الدين ، و أدخلوا البدع و الأخلاق الرديئة في العوائد الإسلامية ، و علمّوا الجهال تعاليم خادعة ، لبِّست الغيّ بالرشاد ، كما علموهم التأويلات الباطلة ، التي شبهت الحق بالباطل ، حتى صار الجبر «توحيداً» ، و إنكار الأسباب « إيماناً » و ترك الأعمال المفيدة « توكلاً » و معرفة الحقائق « كفراً و إلحاداً » و إيذاء المخالف في المذهب « ديناً » و الجهل بالفنون و التسليم بالخرافات « صلاحاً » . و اختبال العقل و سفاهة الرأي « ولاية و عرفاناً » و الذلة و المهانة « تواضعاً » و الخنوع و قبول الضيم « رضى و تسليما » و التقليد الأعمى لكل متقدم « علماً و إيقانا » .
هذا ما كتبه الشيخ الجليل قبل ثمانية عقود من الزمن عن دعاة عصره ، فهل دعاة اليوم أفضل حالاً من أولئك ؟ هذا ما نأمله و نرجوه 6 .