الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المواجهة بين الاستضعاف والاستكبار

عندما نرجع إلى التاريخ الإنساني العام منذ بدايات تكوين الجماعات البشرية نجد أنّ هذا التاريخ مليء بالحروب والمعارك حتّى لم يخلُ جيل من الأجيال الإنسانية إلاّ وقد عانى الكثير من ويلات ذلك التاريخ الأسود، ولا نجد في المسيرة الإنسانية الطويلة إلاّ ومضات منيرة هي عبارة عن الأنبياء الذين أرسلهم الله عزّ وجلّ من أجل إصلاح مسير الإنسانية المعذّبة، والكثير منهم لم يتوفقوا بالمهمات التي كلّفهم الله بها، ممّا زاد الأمور سوءاً، والحياة الإنسانية تعقيداً وتأزّماً، وانقسمت المجتمعات كلّها إلى قسمين ـ قسم مستضعف لا يملك أسباب القوّة لردّ الظلم والعدوان والإضطهاد وقسم مستكبر مارس كلّ أصناف القوّة المادية التي امتلكها من أجل السيطرة على حياة الشعوب ومصادرة خيراتها وهناء عيشها.
ومن هنا نرى عبر ذلك التاريخ الطويل أنّ المستضعفين غالباً ما كانوا يؤمنون برسالات الأنبياء، أملاً بتصحيح الأوضاع، بينما كان المستكبرون يقفون في الصف المعادي ويمارسون القوّة أو الظلم والإستهزاء بالأنبياء ورسالاتهم الإلهية، ويعملون على تحريف الأمور وتزييف الأهداف حتّى يقف ذلك حاجزاً بين الناس والأنبياء، وبنظرةٍ سريعة إلى القرآن الكريم نجد الشواهد العديدة عن هذه الحقيقة التي أوضحتها سور ذلك الكتاب الخالد وآياته المباركات، بدءاً من نبي الله نوح(عليه السلام) وحتّى بعثة خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وسبب تكذيب الفئات المستكبرة الجائرة ضدّ رسالات الأنبياء(عليهم السلام)، كان الله يرسل العذاب قبل نبينا محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) على تلك الأقوام، فمنهم من هلك بريحٍ صرصرٍ عاتية، ومنهم من قلبَ الله مدنهم وقراهم رأساً على عقب، إلى غير ذلك من أصناف العذاب الذي تكرّر ذكره في القرآن الكريم، ومنهم من مسخهم قردة وخنازير ليريهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وكلّ ذلك لم ينفع في ردع أصحاب القوّة ولم يعتبروا ممّا جرى لمن كان قبلهم من المستكبرين الطغاة.
ومن نماذج الآيات الدالّة على ذلك، قول الله عن قوم نوح: ﴿ ... وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ 1، وعن قومٍ آخرين قال الله تعالى: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ 2، وعن قوم موسى قال الله تعالى: ﴿ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ﴾ 3.
ثمّ يوضح الله عزّ وجلّ أنّ سبب العذاب الواقع بتلك الشعوب هو كفرهم وطغيانهم وإغراقهم في الإنحراف والفساد وكما قال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ 4، ويتحدّث القرآن الكريم عن لسان المستكبرين وأتباعهم يوم القيامة وعن سبب دخولهم النار فيقول: ﴿ ... رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ 5.
وأمّا المستضعفون فقد كانوا دائماً الضحية لأنّهم كانوا تحت سيطرة المستكبرين الذين كانوا يستغلّونهم لأهوائهم ومصالحهم الشخصية والفئوية، وكانوا وقود الحروب والفتن قتلاً وجرحاً وتشريداً وفقداناً لموارد العيش الكريم الذي يضمن لهم الحرية والكرامة والعزّة من دون أن يكون لهم حقّ الإعتراض أو الرفض أو الإمتناع عن اللحاق بالمستكبرين وطاعة أوامرهم التي لم تكن تقبل النقاش أو الجدل والحوار.
ولعلّ سيرة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) مع قومه تعطينا صورة جلية ونموذجاً واضحاً عن النزاع بين المستكبرين الذين كانوا ممثلين بطواغيت قريش وبين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والعدد القليل الذي آمن بالرسالة الجديدة، حيث تخبرنا السيرة النبوية عن العذاب والإضطهاد والظلم الذي لحق بالرسالة الجديدة، وتخبرنا السيرة النبوية عن العذاب والإضطهاد والظلم الذي تعرّض له المسلمون الأوائل على يد الطغاة حتّى سقط منهم الشهداء، وكان ياسر أبو عمار وأمّه أول شهيدين في الإسلام وكذلك عمار لولا أنّه كفر لفظاً وبقي مؤمناً بقلبه وروحه وأنزل الله فيه قوله تعالى: ﴿ ... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ... 6.
وفي مقابل هذه الصورة القاتمة والسوداء التي عانى منها المستضعفون نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يعطي الأمل لهؤلاء بأنّ الله سوف ينصرهم على كلّ الطغاة والمستكبرين، وسيجعلهم يرثون الأرض ومن عليها كما قال عزّ وجلّ: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ 7.
والسرّ في هذا الوعد الإلهي أنّ الله خلق الدنيا والإنسان لتكون الحياة الإنسانية صورة مصغّرة ونموذجاً مقرّباً للحياة في الدنيا الآخرة، ولهذا حتّى لو انتصر المستكبرون غالباً في مقابل الإنتصارات القليلة للمستضعفين، إلاّ أن تلك الإنتصارات هي نماذج يمكن للمستضعفين في كلّ عصر أن يستفيدوا من تجارب من سبقهم ممّن انتصروا عبر دراسة واقع أولئك المستضعفين الذين انتصروا، وكانت انتصاراتهم أنواراً مضيئة في سماء الإنسانية، وأبرز مثال على ذلك هو الإنتصار العظيم الذي تحقّق على يدي الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) والجيل الأول من المسلمين الذين اضطرّتهم ظروف القهر والظلم إلى الهجرة والفرار بدينهم في هجرتين إلى الحبشة ليعيشوا بأمانٍ وسلام حتّى تتهيّأ الظروف المناسبة وتكتمل عناصر القوّة والمنعة للإنتصار على الفئة المستكبرة، وقد تحقّق ذلك وقامت نواة الدولة الإسلامية العالمية في المدينة المنورة، وانتهى بعدها عصر الإستكبار في السنة الثامنة للهجرة عندما دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مكة فاتحاً معلناً نهاية مرحلة الإستبداد وإبطال عبادة الأصنام والأوثان، وبداية حكم الذين كانوا مستضعفين وإعلان انطلاقة عصر عبادة الله الواحد القهار سبحانه وتعالى، ممّا مهّد السبيل أمام المسلمين بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التوسّع والتمدّد لتحرير الشعوب المستضعفة من مستكبريها ومضطهديها الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب وضنك العيش والقلق على الحاضر والمستقبل.
وعصرنا الحاضر لا يشذّ عن هذه القاعدة، فالمستكبرون هم الذين يعملون على خنق حركة كلّ شعب أو أمّة تريد الخروج عن سيطرتهم بالقوّة تارةً وبالتهديد أخرى، وبالإحتلال المباشر تارةً ثالثة، ومن تمكّن من تحرير بلده من سطوة الإستكبار يتعرّض للحصار بكلّ أنواعه ولو على حساب موت أبناء ذلك الشعب من دون أن يجرؤ أحد في العالم على المعارضة، إلاّ من بعض الدول المتحرّرة أو بعض أصحاب الضمائر الحيّة من الأفراد أو الجماعات غير القادرة على تغيير الواقع وإسقاط المعادلات التي تحكم العلاقات بين عالم الإستكبار وعالم الإستضعاف.
ولعلّ هذا العصر بالذات يمثّل الذروة في المعركة المستمرّة بين العالمين، حيث يجيز العالم المستكبر لنفسه وبتبريرات غير مقبولة بل ومرفوضة وفق قوانين حقوق الإنسان والمواثيق الدولية أن يشنّ الحرب عندما يشاء من دون الرجوع إلى المنظمات الدولية التي أقرتها شعوب العالم لكي تكون الميزان والمرجع لتحديد الحالات التي تجيز لدولةٍ ما القيام بأعمال من هذا النوع وبطرقٍ مشروعة في الدفاع عن نفسها في مواجهة التهديدات أو الإعتداءات التي قد تتعرّض لها من جانب دولٍ أخرى.
والنموذج الأمريكي في هذه الفترة بالذات يشكّل النموذج الصارخ والواضح عن الإستهتار بكرامات الشعوب وحقوقها، وتعطي لنفسها الحق وفق مقاييسها المنحرفة في إعلان الحرب ضدّ دولةٍ ما، وتجبر دول العالم على اتّخاذ الموقف المؤيّد لها، وإلاّ فهي في الموقف المعادي للقرار الأمريكي ممّا يعرّضها للضرب والإعتداء أو يجعلها في موضع الحذر الدائم من الإنتقام بسبب الموقف الذي قد تتّخذه لأنّها لا ترضخ في سياساتها لإرادة أمريكا.
بل وصل الطغيان والإستكبار الأمريكي إلى مصادرة المنظمات العالمية وجعل منها أداة تصدّر القرارات لتبرير الإعتداءات الأمريكية وإعطائها شرعيةً لا حقّ لها بها كما حدث في مناطق كثيرة من العالم في العقد الأخير بالخصوص بعد خروج أمريكا منتصرة في حربها الباردة ضدّ المعسكر الإشتراكي وقاعدته "روسيا".
إلاّ أنّ هذا الواقع المؤلم والقاسي الذي تعانيه شعوب العالم المستضعف ومنه العالم الإسلامي لن يبقى كذلك إلى الأبد، فالتاريخ شاهدٌ على زوال الكثير من الدول العظمى في التاريخ كالإمبراطورية الفارسية أو الرومية وغيرهما، أو كما في تفكّك الإتّحاد السوفياتي في عصرنا الحاضر، ولن تشذّ أمريكا عن هذه القاعدة، وسيأتي اليوم الذي تنتقض فيه الشعوب وخاصة الإسلامية، وكذلك ربيبتها إسرائيل التي لن تدوم، لأنّ المسلمين يملكون العقيدة والسلاح الإيماني والروحي الفعّال القادر على مواجهة أقوى الأسلحة التي تملكها الدول المستكبرة، لأنّ الإنسان يبقى هو الأساس عندما يكون ذا إرادة وتصميم وعزم على الجهاد والقتال ضدّ المعتدين والمستكبرين، وهو القادر على صنع الحاضر والمستقبل معاً.
وكما انتصر المسلمون الأوائل مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمسلمون اليوم سوف ينتصرون حتماً وفق الوعد الإلهي بجعلهم الأئمة والوارثين بدلاً من المستكبرين في قيادة العالم نحو تحقيق الأهداف الإلهية، لأنّ الله لن يسمح بأن تنتهي الحياة البشرية إلاّ على الصورة التي أراد للبشرية أن تعيشها وهي حياة "العبادة لله والأمن والسلام للإنسانية جمعاء". لكنّ ذلك الإنتصار المحتوم يتوقّف على إدراك الأمّة الإسلامية لطاقاتها وإمكانياتها وقدراتها المادية والبشرية التي تستطيع أن تستغلّها في المعركة ضدّ الإستكبار الأمريكي الذي يروّج في إعلامه أنّ الإسلام هو العدو الأوحد الذي يقف عائقاً في وجه إكمال السيطرة العالمية المطلقة على العالم، والحرب على العراق كانت البداية والآن أفغاستان وهكذا.
وقد قال الله في كتابه الكريم: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ... 8، وقال أيضاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ 9.
وفي ختام هذا المقال لا بأس بذكر بعض الإستفتاءات الموجّهة إلى السيد القائد الإمام الخامنئي(دام ظله) مع أجوبتها لتوضيح هذا الأمر بصورةٍ أوضح:
س: ما هو حكم شراء وبيع البضائع الأمريكية؟ وهل الحكم يعمّ جميع الدول الغربية مثل فرنسا وبريطانيا؟ وهل الحكم مختص بإيران أو يعمّ جميع البلدان؟
ج: لو كان في شراء البضائع المستوردة من البلاد غير الإسلامية وفي الإستفادة منها تقوية للدولة الكافرة المستعمرة المعادية للإسلام والمسلمين أو دعم مالي تستثمره في الهجوم على البلاد الإسلامية أو على المسلمين في أرجاء العالم وجب شرعاً على المسلمين الإمتناع عن شرائها ومن استعمالها والإستفادة منها بلا فرقٍ في ذلك بين بضاعة وأخرى ولا بين دولة وأخرى من الدول الكافرة المعادية للإسلام والمسلمين ولا يختصّ الحكم بمسلمي إيران.
س: هل يجوز للمسلمين شراء البضائع الإسرائيلية التي تُباع في البلد الإسلامي؟
ج: يجب على المسلمين الإمتناع من شراء واستعمال البضائع التي يعود نفع إنتاجها وشرائها إلى الصهاينة المحاربين للإسلام والمسلمين.
س: هل يجوز شراء منتوجات شركات يهودية أو أمريكية أو كندية مع احتمال أنّ هذه الشركات تدعم إسرائيل؟
ج: لو كانت ممّا يُستخدم نفعُ إنتاجه وبيعه وشرائه في دعم دولة إسرائيل الغاصبة أو في معارضة الإسلام والمسلمين لم يجز لأحدٍ شراؤه والإنتفاع به، وإلاّ فلا مانع منه.
والحمد لله ربّ العالمين10.