الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

عدم سقوط الحد بالتوبة

لو أنَّ شخصًا ما ارتكب الزنى أو اللواط والعياذُ بالله ثم تاب بعد ذلك، فهل التوبة تُسقِط عنه الحدَّ المقرَّر شرعًا؟

الجواب:

التوبةُ الصادقة تُوجب غفرانَ الذنب وسقوطَ العقوبة الأخرويَّة ولكنَّها لا تُوجب سقوط الحدِّ -كالرجم والجلد- في الدنيا إذا وقعت التوبةُ بعد قيام البيِّنة، وأمَّا لو تاب المرتكِب لمُوجِب الحدِّ قبل قيام البيِّنة فإنَّ المشهور ذهبوا إلى سقوط الحدِّ عنه، فليس للحاكم الشرعي إقامة الحدِّ عليه، واستندوا في ذلك إلى مرسلة عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (ع) فِي رَجُلٍ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى فَلَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ مِنْه، ولَمْ يُؤْخَذْ حَتَّى تَابَ وصَلَحَ فَقَالَ (ع): إِذَا صَلَحَ وعُرِفَ مِنْه أَمْرٌ جَمِيلٌ لَمْ يُقَمْ عَلَيْه الْحَدّ" 1

فالرواية واضحة الدلالة في سقوط الحدِّ عن التائب دون الحاجة إلى عفو الحاكم الشرعي لكنَّ الشأنَ في حجيَّة هذه الرواية نظرًا لكونِها مرسلة، نعم بناءً على تماميَّة كبرى انجبار ضعفِ سند الرواية بعمل المشهور تكون الروايةُ صالحةً لإثبات دعوى سقوط الحدِّ عن التائب إلا أنَّ الإشكال هو منافاة هذه الرواية مع عددٍ من الروايات المعتبرة التي دلَّت على إقامة لزوم إقامة الحدِّ مع ظهور التوبة قبل البيِّنة من مُرتكب موجب الحدِّ.

فمن ذلك ما ورد في معتبرة الأصبغ بن نباتة قال: أتى رجلٌ أميرَ المؤمنين (ع) فقال: يا أميرَ المؤمنين إنِّي زنيتُ فطهِّرني فأعرضَ عنه بوجهه، ثم قال له: اجلسْ، فقال (ع): أيعجزُ أحدُكم إذا قارفَ هذه السيئةَ أن يستُرَ على نفسِه كما سترَ اللهُ عليه، فقام الرجلُ فقال: يا أميرَ المؤمنين إنِّي زنيتُ فطهِّرني فقال (ع): "وما دَعاك إلى ما قلتَ؟ قال: طلبُ الطهارة، فقال (ع): "وأيُّ طهارةٍ أفضلُ من التوبة... ثم قال له (ع): ويلَك اذهبْ حتى نسألَ عنك في السرِّ كما سألناك في العلانية فإنْ لم تعُد إلينا لم نطلبْك، قال فسأل عنه فأُخبر أنَّه سالمُ الحال وأنَّه ليس هناك شيء يدخل عليه الظن، قال ثم عاد الرجل إليه فقال: يا أميرَ المؤمنين إنِّي زنيتُ فطهِّرني فقال له: إنَّك لو لم تأتنا لم نطلبك ولسنا بتاركيك إذ لزمك حكم اللَّه عز وجل .." ثم أقام عليه الحد 2.

فهذه الرواية المعتبرة صريحة في وقوع التوبة من مرتكب الزنا قبل البينة والإقرار ورغم ذلك أقام الإمام (ع) عليه الحد ومنه: صحيحة أبي العباس البقباق، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أتى النبيَّ (صلى الله عليه وآله) رجلٌ فقال: إنِّي زنيتُ، فصرف النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) وجهَه عنه، فأتاه من جانبِه الآخر ثم قالَ مثلَ ما قال، فصرفَ وجهَه عنه، ثم جاء الثالثة فقال: يا رسول الله إنِّي زنيتُ وعذابُ الدنيا أهونُ من عذابِ الآخرة، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): أبصاحبكم بأس؟ -يعني، جنَّة- فقالوا: لا فأقرَّ على نفسِه الرابعة، فأمرَ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرجم .." 3.

فالواضحُ من الرواية أنَّ الباعث لِمرتكِب الزنى -في الرواية- على الإقرار بالزنى هو الندمُ وطلبُ الطهارة وخوفُ العقوبة في الآخرة، فهو تائب دون ريب، وقد وقع ذلك منه دون قيام البينة عليه وقبل الإقرار ورغم ذلك أقامَ النبيُّ (ص) عليه الحدَّ.

وعليه فلو تجاوزنا ضعفَ مرسلة جميل من حيثُ السند وبنينا على انجبار الضعف بعمل المشهور فأقصى ما يترتَّب عن ذلك هو مكافئة هذه المرسلة لمثل صحيحتي الأصبغ والبقباق فيستحكم التعارض وحينئذٍ يكون المرجعُ بعد التساقط هو العمومات الفوقانيَّة المقتضية لوجوب اقامة الحد عند تحقُّق كقوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ... 4 وكذلك غيرها من الإطلاقات التي جعلت موضوع الحدِّ هو فعل اللواط أو شرب الخمر.

نعم يُستثنى من ذلك حدُّ السرقة وحدُّ الحِرابة فقد ورد في كلٍّ منهما نصٌّ خاصٌّ يدلُّ على سقوط الحدِّ بالتوبة قبل قيام البيِّنة، أما حدُّ السرقة فقد روى الكليني بسندٍ صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: السَّارِقُ إِذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِه تَائِبًا إلى اللَّه عَزَّ وجَلَّ ورَدَّ سَرِقَتَه عَلَى صَاحِبِهَا فَلَا قَطْعَ عَلَيْه" 5.

وأما حدُّ الحرابة فقد روى الشيخ عليُّ بن إبراهيم بسندٍ معتبر في تفسيره عن أبيه، عن عليِّ بن حسان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "مَن حارب الله وأخذَ المال وقَتل كان عليه أنْ يُقتل أو يُصلب، ومَن حاربَ فقَتلَ ولم يأخذ المالَ كان عليه أنْ يُقتَل ولا يُصلَب، ومَن حارب وأخذَ المال ولم يقتِل كان عليه أنْ يُقطع يده ورجله من خلاف، ومَن حارب ولم يأخذ المال ولم يقتِل كان عليه أن يُنفى، ثم استثنى عزَّ وجلَّ: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ... 6 يعني يتوبوا قبل أن يأخذهم الامام" 7.

ففي هذين الموردين يسقط الحد بالتوبة دون الحاجة إلى عفو الإمام وأما ما عداهما من الحدود فلا تسقط بالتوبة كما هو الصحيح، نعم للحاكم الشرعي أنْ يعفو عن المرتكب لمُوجبِ الحدِّ كالزنى إذا كان المُرتكب لمُوجبِ الحدِّ قد تاب قبل قيام البيِّنة عليه كما نصَّت على ذلك الروايات.

ثم إنِّ المُرتكب للزنى أو غيره من الفواحش لا يجبُ عليه الإقرار بالفاحشة عند الحاكم الشرعي بل له أنْ يسترَ على نفسِه ويصدقَ في توبتِه لله عزَّ وجل كما دلَّت على ذلك صحيحةُ الأصبغ وصحيحةُ أبي العباس البقباق.

والحمد لله ربِّ العالمين. 8

  • 1. الكافي -الشيخ الكليني- ج7 / ص251.
  • 2. وسائل الشيعة -الحر العاملي-ج 28 ص 55.
  • 3. وسائل الشيعة -الحر العاملي-ج 28 ص 102.
  • 4. القران الكريم: سورة النور (24)، الآية: 2، الصفحة: 350.
  • 5. الكافي -الشيخ الكليني- ج7 / ص220.
  • 6. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 34، الصفحة: 113.
  • 7. وسائل الشيعة -الحر العاملي-ج 28 ص 313.
  • 8. المصدر : موقع سماحة الشيخ محمد صنقور حفظه الله.