حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
- التقوى - الصوم - الصيام - المساواة - رمضان - شهر الله - شهر رمضان - ضيافة الله - محمد تقي المدرسي
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
في ضيافة الله
الصوم عبر التاريخ
كان الإنسان عبر التاريخ بحاجة ماسة إلى أن يمرّن نفسه ويربيها لمواجهة الصعاب والمشاكل . ففي أنظمة الحكم المتفاوتة وعبر القرون المديدة ، كان الناس يهتمون بتربية رجال أفذاذ ، مهمتهم مواجهة الأعداء في المعارك ، فكانوا يدربونه جسدياً وينمونه معنوياً ، وذلك عبر منعه وإبعاده عن الذات العاجلة ، وفرض الصيام عليه لفترات معيّنة . ليحرز أكبر قدر ممكن من الصبر على العطش والجوع والسهر والابتعاد عن الماء والحمّام وما أشبه ذلك ، نظراً لما تتطلبه الحروب أو بعض المصاعب من قدرة خاصة على التحمل ، ولما تمتاز به ظروف الحروب من نقص في اللذات المتوفرة في حالة السلم .
وكذلك الأمر بالنسبة لتأريخ الأديان التي كانت تفرض على أتباعها صوراً وأشكالاً من التدريبات الجسدية والروحية ؛ فمثلاً كان بنو إسرائيل يؤهلون من يريد التفرغ للعبادة والتبتل والرهبنة عن طريق الصيام مدة طويلة عن الطعام والشراب والكلام أيضاً ، ليكون ذا مناعة عن الرجوع .
كما كانت أقوام وديانات أخرى تفرض على نفسها أنواعاً أخرى من الصيام ، كالصوم عن اللحم وما يرتبط بالحيوانات ، أو الصوم عن النوم ، فيسهرون ويسهرون حتى يتأكدوا من هزيمة النوم . .
وكان هناك صوم الوصال ؛ أي الصوم المتواصل حتى تحقيق أو تحقق الهدف المقصود منه ، كأن تمطر السماء ، أو يرجع الغائب . .
لكن الإسلام جاء برسالة تنظيم لهذه الأنواع من الصيام ، والاتجاه به نحو هدف سامٍ ومقدس ، وهو إحراز التقوى والتقرب إلى الله تعالى ؛ لأن الإسلام هو خاتم الأديان والرسالات ، فكان طبيعياً وضرورياً أن يأتي التشريع الأكمل والأنفع للإنسان .
فكان الصوم في بدء الشريعة الإسلامية ممتداً إلى الليل ، مصحوباً ببعض التحريمات ، لكن الإسلام أهلّ فيما بعد ما حرّم في الليل ، وجعل مدة الصوم إلى الليل فقط .
إذن ؛ فإن الصوم لم يكن بالأمر الغريب على أذهان الناس عبر التأريخ ، وكان يأخذ بين الحين والآخر صورة من الصور ، وإنما كان دور الإسلام هو تنظيمه وإضفاء الحالة الهدفية التي يريدها الله عليه ، فأصبح التشريع الأيسر والأفضل ، حتى اعتُبر من يترك هذه الفريضة مع يسرها وسهولتها التي تمتاز به ، اعتبر من الأشقياء بحق ، لأنه لا يجد لنفسه عذراً سوى ضعف الإرادة وهجر الخير واستحباب الدنيا بتوافهها على الآخرة بعظمتها وجلالها . .
من أجل التقوى
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ 1
نصوم بين طلوع الفجر وغروب الشمس ، فنكفّ منافذَ أجسامنا عما أوجب الله سبحانه وتعالى الاجتناب عنه من الطعام والشراب والشهوة وما أشبه ، هذه حدود الصيام الظاهرية . .
ولكن ؛ هل أن كل صائمٍ تصدق عليه هذه التسمية ؟ وهل أن الصائمين كلهم في مستوى واحد ؟ وهل أنك ترضى لنفسك أن تكون في المستوى الأدون ؟! لا أتصوّر أنك كذلك ، ولا أنا ، ولا كل صائم ، فالجميع يبحثون في حياتهم عن الأفضل والأرقى ، سواء في أمور الدنيا أو الآخرة . .
غير أنه يبقى من الصائمين من لا حظّ له من صيامه سوى الجوع والعطش ، وليس الصوم بالنسبة له إلاّ ساعات من الإمساك عن الأكل والشرب . . في حين أن من الصائمين ثلّة تتقرب بصيامها إلى الله حتى تعتق رقابها من النار ويُغفر لها وتوجب لها الجنة ، وبين هذا وذاك درجات من الصائمين . .
إن أول درجة من درجات الصيام هي أن تصوم وتصوم معك كل جوارحك وأفعالها . فلا تصوم عينك عن الحرام فقط ، بل حتى عن الشبهات ، ويصوم لسانك فيكفّ عن الكذب والتهمة والافتراء والغيبة وغيرها . . وقد تواتر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر لإحدى الصائمات بطعام ، فتعجبت قائلة : يا رسول الله إني صائمة ، فقال لها : كيف تكونين صائمة وقد أكلتِ لحم الناس ، في إشارة إلى ذهاب ثوابها لفعلها الغيبة المنكرة . .
فالصوم ليس هو الصيام الظاهري فحسب ، وإنما هو كما قدّمنا امتناعً عام عن كل المحرمات الظاهرية والباطنية .
إن من الناس من تسوء أخلاقه أثناء الصيام ، في حين إن الصوم يدعونا إلى البشاشة والطلاقة والتطور الروحي ، لما فيه انعتاق عن المادة . .
وهناك درجة أسمى من الصوم العادي ، وهو أن يصوم المرء بقلبه ، حيث يكون معراجاً للحب ، ومهبطاً للملائكة ، ومنزلاً للرحمة الإلهية بدلاً من أن يكون مهوىً للشياطين ، ومركزاً للوساوس والأحقاد والعصبيات والحميات الجاهلية الباطلة .
بلى ، إن الصوم قد يكون مستحباً ، وقد يكون واجباً ، ولكن صيام شهر رمضان واجب على كل إنسان مكلّف ، وإن أفضل الصيام هو صوم المنافذ والجوارح والقلب ، وأن تكون النية في ذلك كله منعقدة على العزم على أن يكون الصوم معراجاً إلى بلوغ مرحلة التقوى والورع ، لأن الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الفريضة الشريفة هذه إلا لنكون من المتقين كما صرحت به الآية الكريمة بصورة مباشرة .
لقاءٌ بين التوبة والرحمة
﴿ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ 2
إن من نعم الله على الإنسان أنه يمنحه فرص العودة إليه ، هذه الفرص تعتبر بمثابة نفحات رحمانية يتوجب عليه كمخلوق أن يتعرض لها . ومما لا شك فيه أن شهر رمضان من أرقى فرص التوبة ، وذلك لأسباب عديدة ، منها :
إن الله سبحانه وتعالى قد كتب على نفسه بأن يتوب في هذا الشهر الكريم على عباده المسرفين الظالمين لأنفسهم . .
ومنها ؛ إن لهذا الشهر ميزةٌ على غيره من الشهور ، حيث يجد المرء نفسه فيها في ظروف مناسبة تؤهله لخوض تحول معنوي عظيم ، ، فتراه يعكف على قراءة القرآن والأدعية وحضور مجالس الخير في ضمن الجوّ الإيماني السائد في مجتمع الصائمين .
ومنها ؛ إن في أحايين معينة يتنور قلب الإنسان بنور الله العلي العظيم ، حتى كأنه ثم ومضة من النور الإلهي تنفذ الى أعماقه ، فيتفتح القلب ولو للحظات . هذه فرصة ـ لا تُثمَّن ـ قد أمر ربنا سبحانه وتعالى رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغها الإنسان على الأرض عموماً ، وإلى المؤمنين على وجه الخصوص ، وهي أنه قد كتب على نفسه الرحمة ، وهو دونما أي تأثير خارجي ـ والعياذ بالله جل جلاله ـ أراد الرحمة ، فكان من أعظم أسمائه الحسنى اسما " الرحمن ، الرحيم" وكانت رحمته واسعة ، رحمة سبقت كل الغضب ، وكل ذنوب العباد .
فتمثلت هذه الرحمة الإلهية بأنه من عمل سوءاً من المؤمنين ثم تاب توبةً ملِؤها الندم والعزم على الخير والصلاح ، والإحساس بالحاجة إلى التطهر والنقاء ، والعودة إلى الرب الغفور الرحيم ، وإلى تلك الحالة المعنوية والفطرة السليمة ، وإرادة عدم الاحتجاب عن المناجاة المباشرة مع الله تعالى . . . تاب الله عليه
فالإنسان إذا ظلم الناس فقد أفسد حياته وضميره بادئ بدء ؛ وإن من لا يحترم الآخرين لا يحترم نفسه ، لأنه واحد منهم ، ولا يمكن أن يتصور انفصاله عمن حوله بحالٍ من الأحوال . . وهو إذا ما أراد أن يصلح ، فعليه أن يصلح ما بينه وبينهم ، وذلك كأن يدفع بالظلامة عنهم ، ويطلب البراءة منهم ، وأن يحطم الحواجز النفسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التي تفصل بينهما .
إذن ؛ فالتوبة لا تتحقق لها مصداقية تُذكر ما لم تتبعها خطوات إصلاحية ، تستحق بموجبها الرحمة التي كتبها الله على نفسه ، فيأخذ بيده الى ممارسة المزيد من أعمال الخير والصلاح ، وإذ ذاك يتم التوافق والانسجام بين عمل الإنسان وسيرته ، وبين ما يريده الله سبحانه وتعالى من الإنسان وما يحبذه له .
لقاء الرحمة والعبادة
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ 3
لماذا كتبت علينا فريضة الصيام في شهر رمضان ؟ فإن كانت حكمة الصيام هي تحصيل التقوى وتزكية النفس وتعبئة الحالة الروحية في الإنسان ، فهذا يقتضي أن يكون الصيام في أي يوم ، وفي أي شهر ، وفي أي فصل من فصول السنة ، فلماذا سُنّ الصيام في شهر رمضان المبارك بالذات ؟
وللإجابة على ذلك ، أقول : إن الصوم بذاته واجب على الإنسان أن يؤديه في السنة شهراً ، ثم تحدد هذا الشهر برمضان ، فإن لم يستطع المسلم أن يصومه فعليه أن يقضيه في أيام اُخر ؛ أي أن يصوم شهر كاملاً بدلاً عن الصيام في شهر رمضان ، هذا أولاً . .
وثانياً : إن شهر رمضان قد إختصه الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة ، فهو الفعّال لما يريد ، وهو الذي يسأل ولا يُسأل عما يفعل . خصّ الله شهر رمضان برحمته ، وجعل فيه ليلة القدر ، وأنزل في هذه الليلة المقدسة القرآن الكريم ، كما جعل في هذا الشهر المناسبات الجميلة واللطيفة ، كما خصّه باستجابة الدعاء ومضاعفة الخير ، حتى أن الإنسان ليقرأ الآية الواحدة من الذكر الحكيم فيضاعف الله له الثواب ، فيكون كأنما قد قرأ القرآن الكريم كلّه . . . وقد قال الله تعالى كما جاء في الحديث القدسي : " الصوم لي وأنا أجزي به" بمعنى أن الله هو الوحيد القادر على إحصاء ثواب الصيام المكتوب للصائم ، دون الملائكة واللوح والقلم والعادّين عموماً . ومن هنا جعل الصوم باعتباره عملاً شريفاً عظيماً وجُنةً من النار ، كما جعل هذا الصوم أيضاً في هذا الشهر باعتبار عظمة هذا الشهر .
ولمّا كان شهر رمضان شهر الرحمة والجذب إلى الله سبحانه وتعالى وهو مصدر الرحمة ، تجد الناس مطمئنين النفس والوجدان ، فيمرّ عليهم هذا الشهر مروراً سريعاً يفاجئون بانتهائه . ولهذا ولغيره من الأسباب الاضطرارية فقد خفّف الله عن عباده الصيام في شهر رمضان وأرجأه الى أيام اُخر ، ولم يأمر المسافر ـ مثلاً ـ بأداء فريضة الصيام ، بل حتى قال بعض الفقهاء بعدم جواز الصيام فيه ، فضلاً عن عدم وجوبه ، لأن الرخصة في هذا الإطار بمثابة الهدية الإلهية ، ولا يصح ردّ هدية الله . كذلك الأمر بالنسبة الى حالة المرض التي لا تتطلب أن يجهد المرء نفسه لتجاوزها ، فالله رؤوف بعباده ، ولا يريد لهم التعب .
وعلى هذا الأساس حدّد الله تبارك وتعالى شهر رمضان شهراً للصيام ، ليتقرب الى بارئه أكثر من أي وقت آخر ، فيستفيد من هذه الفريضة الإلهية أكثر الاستفادة ، حيث يصل به إلى التقوى والرضوان .
التقوى . . العطاء . . الإيثار
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ 4
خلال شهر رمضان المبارك نتزود بالتقوى ، وهي الفضيلة التي تنفعنا في مواطن كثيرة ؛ من أبرزها أن الإنسان المتقي يكون جواداً كريم النفس معطاءً محسناً للآخرين متفضلاً عليهم . فهو يبحث ـ بدافع التقوى ـ أن تكون يده هي العليا في أية علاقة تربطه والآخرين ، ويريد أن يكون الأمثل والأفضل .
ولكن البعض من الناس يريد الخير كله للآخرين ، بمعنى أنه يريد لجاره أن يكون فاضلاً ، وصديقه تقياً ، وتلميذه صالحاً . . غافلا عن أن يبحث أو يريد هذه الصفات الحسنى وغيرها لنفسه قبل غيره . فلماذا لا أكون (أنا) أول ملتزم بهذه الصفات ؟
إن العطاء من أفضل الفضائل ، لأن من يعط يقه الله شح نفسه ، نظراً لأن الإنسان عموما يعيش في زنزانة ذاته ، ويبحث عن مصالحه الشخصية ، ويفكر في أنانيته وفيما ينتفع به في لذاته وشهواته . أما إذا تمكن من التحرر من زنزانة ذاته ، ودائرة أنانيته المظلمة وأعطى للآخرين ، وكان كريماً وجواداً ، فإنه ـ في واقع الأمر ـ يكون قد قفز قفزة واسعة للغاية في مسيرة تطوره وتكامله وسموه ، إذ انه استطاع الوصول إلى حقيقة الإنسانية وجوهر الآدمية ، لأنه يعيش الحق والإحسان والإنصاف ، ولا يعيش الذات والهوى .
ومن هنا ، فقد قال ربنا سبحانه وتعالى في سورة الحشر المباركة ؛ وهي السورة نفسها التي ضرب الله المثل فيها بالأنصار الذين آثروا المهاجرين في التاريخ على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . . قال جل اسمه : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... ﴾ 5 ووسيلة التقوى : العقيدة والسلوك ، وهي : ﴿ ... وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... ﴾ 5 أي إنه من الخطأ أن يجعل المؤمنون كل طاقاتهم وإمكاناتهم وثرواتهم حكراً على هذه الدنيا ، بل لابد أن يكون قسم منها للآخرة ؛ الآخرة التي هي جزءٌ من حياة الإنسان أيضا ، فلماذا هذا الولع بساعة أو ساعتين ، ويوم ويومين ، ومجرد سنة أو سنتين من عمره ؟ ولماذا هذه الغفلة الرهيبة عن اللحظات الحاسمة في الحياة ، أو ما يمكن تسميته بالعاقبة ؟!
وعليه ؛ فمن الجدير بنا أن نتعلم ونستفيد من التقوى ، هذه الصفة ، صفة الجود والكرم ، وأن يكون الواحد منا لدى تعامله والآخرين يبحث عما يمكنه منحه لهم ، لا عما يأخذه منهم ، وأن يكون ممن يوق شح نفسه ويترفع على الأنانية والبخل والجمود . .
بين الإرادة والتوكل
﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ 6
الإيمان بالله سبحانه وتعالى يبدأ كما السيل المتدفق ، ولكنه سرعان ما يتشعب إلى شعب وقنوات ، تنتهي كل منها إلى فضيلة من الفضائل ؛ ولعل من أبرز هذه الفصائل ، التوكل على الله جل وعلا .
ونحن إذ نعيش أيام شهر رمضان المبارك نرجو أن تكون نفوسنا قد تحولت إلى نفوس عامرة بالتقوى واليقين والإيمان . في مثل هذه الأيام الكريمة ينبغي لنا أن نسعى إلى تقنين إيماننا وتحويله أو صبه في قنوات تنتهي كلها إلى حقيقة المثل العليا والفضائل الإنسانية والخلق الإلهي ، ومنها التوكل عليه تبارك وتعالى .
ولتوضيح آفاق التوكل أقول : ان إرادة الإنسان غالباً ما يعتريها الخلل لأسباب عديدة ، منها : وساوس الشيطان أو ضعف النفس وظلمها ، أو بسبب تراكمات الماضي وإحباطاته ، أو بداعي اليأس ، أو أسباب أخرى كثيرة . . ويمكن تشبيه دور الإدارة لدى الإنسان كما المحرك في السيارة ودافعها إلى الأمام . فإذا ضعفت الإرادة ضعف كل شيء وكل قوة في الإنسان ، كالحركة والعلم والفكر . والعكس صحيح أيضا إذ تشتد قوة كل شيء في الإنسان إذا قويت واشتدت إرادته ، وقد روي عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه أنه قال : (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية) ؛ أي حينما تكون النية قوية ، كانت الحركة شديدة ونشيطة . وهذا بالذات ما يدعى في علم الاجتماع بالروح ، أو روح الفرد وروح الشعب وروح الأمة .
إذن ؛ فالإرادة تمتاز بحيز كبير للغاية من حقيقة ووجود الإنسان ، سواء كانت هذه الإرادة قوية أم ضعيفة .
وقد جاء في المأثور عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام من الدعاء الكثير من النصوص بهذا الشأن ، منها ما ورد في دعاء مكارم الأخلاق عن الإمام زين العابدين عليه السلام : (اللهم وفر بلطفك نيتي) . والتوفير هو التكريس والحشد ، لأن هذا الحشد المرجو هو أساس الحركة .
أما عامل تقوية الإرادة وتريسخ العزم فيكمن في التوكل على الله ، وقد قال الله تعالى : ﴿ ... عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ... ﴾ 7 فحينما يتوكل الإنسان على ربه يشعر وكأن الثريا في متناوله والأرض في قبضته ، لأن الله هو الوحيد القادر المهيمن . وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام لدى مواجهتهم لجموع الكفر يزدادون توكلا على ربهم ، لأنه هو الذي هداهم إلى سبله ، وهو نفسه الذي ويعينهم على بلوغ النجاح . وهذا التوكل بذاته من طبيعته أن يقلل من حجم الشعور بالأذى ، حيث يزيد من صبر المؤمنين على ما يلاقونه من عقبات وابتلاءات ومصائب وأذى . .
أداء الأمانة والنقد الذاتي
﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 8
أروع ما يكون عليه الإنسان أن يرتفع بمستواه ، فيحترم الآخرين ويحترم حقوقهم لديه ، فيدعى إذ ذاك أمينا يعيش خارج ذاته في محيط الحق وأفق الصدق ومستوى العدالة . .
وقد تكون الأمانة شيئاً بسيطاً ، فيتحمل المرء أمانة قلم أو خاتم أو أي شيءٍ حقير الثمن ، وقد يتحمل أمانة بيت وأسرة ووصايةً على يتيم صغير . فالأمانة لا فرق بين كبيرها وصغيرها ، لأنها تجعله في ميزان يحدد له موقعه بين الحق والعدل وهموم الآخرين والقدرة على تحمل المسؤولية من جانب ، وبين حبس الذات في دائرة الشهوات والأنانيات .
ولمّا كان المؤمن قد صدّق واعترف بحق الله عليه ، فإنه قد إنعتق من عبودية الذات وانطلق إلى أفق العدالة ، لأن حق الله عليه هو الإيمان به وبكلماته وحقوق العباد تجاهه . فالإيمان بالله ليس مجرد كلمة أو علاقة ضبابية بين المرء وخالقه ، إنما هي علاقة بينه وبين الحق ؛ أي الحق الذي يجب أن يحُترم ويُعترف به ويؤدى بالقدر الممكن .
لذلك ؛ فإن ربنا سبحانه وتعالى قد أمر عباده بأداء الأمانات إلى أهلها ضمن سياق قرآني مطلق شامل ، لإضفاء المفهوم الأوسع على طبيعة الحركة الإيمانية في هذا المجال ، فضلاً عن الناحية القانونية له .
﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ... ﴾ 9 تعنى ضرورة تحمل كل إنسان أمانته ، حتى أن حق الوالدين والأولاد والزوجة وذوي الأرحام والأصدقاء كلها أمانات عليه أداؤها ، هذا أولاً .
وثانياً : إن الإنسان يجب أن يسعى باتجاه أداء الأمانة إلى أهلها وعدم خيانتهم بتسليمها إلى غيرهم ، وليعلم انه ليس من المستحسن أن يتغافل عن مسؤولية أداء الأمانة ثم تراه يعكف على تدوين قائمة عريضة يضمنها ووصاياه التي لا تنتهي ، الغرض منها تلافي الخيانة التي ارتكبها طيلة سني عمره ، فيثقل كاهل أولاده بعد وفاته ، لأنه ليس من المعلوم أو المضمون حرص وإلتزام الموصى لهم بمثل هذه الوصية الطويلة والمكلفة .
فلينظر كل إنسان في شهر رمضان ؛ شهر الرحمة والمغفرة وشهر النقد الذاتي والمحاسبة الذاتية ، فلينظر إلى نفسه لإعادة حساباته عبر ساعات التفكير والتدبر في آيات القرآن الكريم وتلاوة الأدعية المباركة وساعات الصلاة ، وصياغتها صياغة تنتهي إلى حالة مراجعة ذاتية إيجابية . فلا تبقي حقا ـ صغيراً أو كبيراً ـ منغلقا في ذمتك ، سواء كان هذا الحق حقاً ذاتياً أو حقاً لله أو حقاً للآخرين ، مالياً أو معنوياً .
عن الصدق والصادقين
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ 10
إن الصدق هو علامة وفضيلة المؤمن البارزة ، إذ تراه يصدق مع نفسه ، ويصدق مع ربه ، ويصدق مع الناس . . والصدق بالنسبة إليه جزءٌ لا يتجزّأ من صميم وجوده وكيانه ، فلا يعيش الازدواجية والنفاق والثنائية ؛ فما يقوله هو ما يؤمن به ، وما يفعله هو ما يؤمن به ، وما يؤمن به يقوله ويفعله . وليست هناك أيّة مسافة بينه وبين الواقع الخارجي . فما يقوله للآخرين هو نفسه الذي يقوله لربه ، وما يفعله هو الذي يرتاح إليه ضميره في الدنيا ، ولن يخجل منه لدى لقائه ربَّه في يوم القيامة . فتراه يعيش في داخله حالةً رائعة من الاستواء والاستقرار والتوازن والاطمئنان .
وفي شهر رمضان المبارك تسنح الفرصة بشكل واسع إلى السمو بالنفس إلى هذا المستوى الرائع المشار إليه ، وهو تضييق المسافة وردم الهوة بين الأعمال والأقوال .
ثم إن الإنسان ملزم بأن يتعرف على موقع قدمه وأين ينبغي له أن يضعه ، فإذا أراد التعهد لنفسه أو لربه أو للآخرين عليه ـ وقبل كل شيء ـ أن يحدّد قابلياته وإمكانياته ، لئلاّ ينتهي به الأمر إلى أن يكون من الكاذبين .
فالعهد والعقد والوعد ليس إلاّ كلمة تخرج من فم الإنسان ، فيكون لها أسيراً ، لأنها بمثابة الوجه الآخر لشخصيته وذمّته ومستوى احترامه . ولمّا كان الإنسان المؤمن بطبيعته كائناً كريماً محترماً ، فلا يسعه ـ والحال هذه ـ إلاّ أن يضفي على نفسه المزيد من الاحترام ، وأن يكنّ لربه وللناس الاحترام ، فيكون صادقاً معهم في كل مكان وزمان ؛ على النقيض من حالة النفاق والازدواجية التي تجبر المصاب بها على نقض العهد والوعد وعدم احترام الآخرين ونفسه ، فتراه قد يعد أولاده ـ مثلاً ـ مرة ومرتين وثلاث مرات ولكنه لا يفي بما يعدهم حتى يفقد أولاده الثقة به ، وبالتالي يكون بسيرته هذه قد اقتلع لبنة مهمة للغاية في بناء الأسرة ، وجرها نحو الدمار . وقد يتعهد أمام نفسه بالتوبة إلى ربه ، ولكنه سرعان ما يفرّ على وجهه ، نتيجة عدم احترامه لنفسه .
وفي آية مباركة يعاتب الله سبحانه بعض المؤمنين الذين لمّا يطهّروا ما قد يصيب أنفسهم بعد ، أو كأنه يرسم للمؤمنين خط الإيمان القويم ، فيقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ 11 بمعنى أن الذي يقول كلاماً ويتعهد بعهدٍ ثم لا يقف عند كلامه وعهده ، ممقوت ومذموم وغير محترم . فهو الذي لا يحترم نفسه ، وعليه أن يستعد لعدم احترام ربه والآخرين له .
إذن ؛ فضيلة الصدق صفة أساسية في الإنسان المؤمن ، وهي تشمل جميع أبعاد حياته تقريباً ، وهو إذا ما عاش هذه الحالة الإيجابية عاش راحة نفسية . في حين إن المدمن على الكذب من شأنه الخوف من ذياع حقيقته ونفاقه الخفيين ، فلا يجد لنفسه راحة أو استقرار .
إن شهر رمضان الكريم عبارة عن دعوة إلى مراجعة الذات ، والاستفادة من القدرة التي وهبها الله تبارك وتعالى إلى الإنسان ، والمتمثلة في صناعة الحياة وصياغة النفس باستمرار ، لأنه الكائن الوحيد بين المخلوقات القادر على إعادة ما تدّمر لديه . فالكاذب بإمكانه أن يكون صادقاً ، والصادق أيضاً بوسعه أن يتحول إلى كاذب . . وشهر رمضان وما يمتاز به من أجواء وعوامل روحية وأخلاقية ، فرصة ثمينة سانحة أمام المؤمنين ، لكي يضاعفوا من تخلقهم بأخلاق الله ، وإن من أخلاق الله كلمة الصدق والوفاء .
موعد مع الصبر
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ 12
لقد تجمّعت في كتاب الله المجيد كل ركائز التربية ووسائلها وبواعثها ، ولعل من أبرزها وأعلى درجاتها هو الصوم ، إذ هو كفٌّ للنفس عن الأمور التي يحل التعامل معها في غير حالة الصيام . فإنها تربّي الإنسان وتدرّبه وتنمّيه على قوة الإرادة والعزم ، وتجعله قادراً على اجتناب ما أحلّه الله له في الحالات العادية .
ثم إن الله سبحانه وتعالى قد أمر في كتابه بالصيام على نمطين ، النمط العام هو الصيام في شهر رمضان المبارك ، وكتبه علينا كما كتب على الذين من قبلنا من الأمم الأخرى . والنمط الثاني هو الذي يخص بعض الأولياء ، فهو بالإضافة إلى ترك الطعام والشراب ، كذلك يجب ترك الكلام فيه ، كما هو معروف في قصة النبي زكريا عليه السلام ، حيث أمره الله تعالى بالخروج على قومه من المحراب وألاّ يكلمهم ، كعلامة على ولادة ابنه يحيى . وكذلك في قصة مريم عليها السلام التي نذرت للرحمن صوماً فلم تكلم الناس ، وأمرتهم بتوجيه خطابهم إلى طفلها الرضيع عيسى عليه السلام لإثبات نبوته وهو في المهد . .
والصوم ـ أيضاً ـ قد أمر به أولاً في الحالات العادية في كل عام شهراً واحداً ، وأمر به مرة أخرى حينما يحتاج الإنسان إليه ، حيث قال ربنا تبارك وتعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ... ﴾ 13 وقد فسّرت كلمة (الصبر) من هذه الآية المباركة على أنها الصيام ، نظراً لأن الإنسان حينما يكون صائماً يكون أصبر عن الطعام والشراب والشهوة الجنسية وعمّا أمر الله بتركه .
أما كيف تكون الاستعانة بالصوم ؟
أولاً : أن الصائم يصبر عن هذه الشهوات الجسدية العاجلة ، فتنمو إرادته وتتضاعف عزيمته قوةً .
ثانياً : إن الإنسان بصيامه يتقرب إلى الله تعالى ، ومن أولى بنصره الإنسان من الله ؟
ثالثاً : إن الصائم يقترب من المعنويات ، وكلما أراد الإنسان عُروجاً الى عالم المعنويات ، كان أقدر على الهيمنة على الماديات . فمن يصاب بمصيبة ، أو تلحق به خسارة اقتصادية ، أو لم يجد للزواج سبلاً ، فعليه الاستعانة بالصيام ، بدلاً من الانهيار أمام المشاكل ؛ فإنه إذا صام ازداد معنوية وعزماً واقتراباً الى مصدر القوة والربح والعناية والتوفيق ، وهو الله جل وعز .
شهر الصبر
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ 14
ماذا يعنى الصبر ؟ ولماذا كان الصابرون يؤتَون أجورهم عند ربهم بغير حساب ؟ ولماذا سمي الصائم صابرا ، حيث فسرت الآية المباركة عن قوله الله تعالى : ﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ... ﴾ 15 أي استعينوا بالصيام والصلاة ؟
بادئ بدء نؤكد إن الصبر عبارة عن حذف الزمن القادم ، والوصول إلى الحدث المتوقع والمنتظر . فمن يصبر وينتظر الفرج ، فإنه يحذف الزمن الفاصل بينه وبين الفرج ، وبينه وبين النصر والوصول إلى الهدف . فكلما رأى في طريقه المصاعب والمشاكل والابتلاءات ، فإنه لا يوليها الأهمية والإنتباه ، وينظر إلى الهدف البعيد . كما أن الصائم إذا مضه العطش ، ولسعه الجوع ، وأخذه الضعف ، منى نفسه بإنقضاء فترة الصوم والإمساك في هذه الساعة أو تلك . أو كذلك الطالب في المدرسة ، حيث يقاوم السهر والبرد والتبكير في الصباح والاستمرار في المطالعة والبحث وتقديم الإمتحان تلو الإمتحان ، كل هذه يقاومها ويركز نظره في نهاية العام الدراسي ، حيث يأخذ وثيقة الإمتحانات بتفوق ؛ في ذلك تتلاشى جميع الصعوبات التي مرت عليه ، بل وتحلو لديه . وهذا بالذات هو معنى الصبر والإستقامة .
أما لماذا كان الصوم صبرا ؟
فواضح ، لأن الصائم يستمر في الصبر من أول الفجر إلى الغروب ؛ ليس يصبر على الجوع والعطش والشهوات فحسب ، وإنما يصبر أيضا على اقتراف السيئات والمحرمات .
ولما كانت درجة الصبر درجة عظيمة جداً ، فقد وعد الله سبحانه وتعالى الصابرين بأن يؤتيهم أجورهم بغير حساب . وذلك بسبب ان الصابرين يمثلون البقية الباقية من جمع المؤمنين ، الذين لم يكن إيمانهم إيماناً موقتا . فالصابرون دائمو النظر إلى الهدف البعيد ، وهو يوم القيامة ولقاء ربهم ، وقد كانوا مصداقاً طيباً لقوله تبارك اسمه : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ 16 حيث لا ينظرون إلى حياتهم كلها إلا على أنها فترة زمنية قصيرة سريعة الانقضاء ، وبالتالي فهم لا يعبدون الله على حرف ، أو تهزهم الهزائز بمختلف أشكالها . .
إن الصابرين هم الأقلية القليلة التي آلت على نفسها إلا تتأثر بالصعوبات ، فتتراجع عن الهدف الذي رسمته لنفسها .
ويخطأ من يدعي أن ثمة نهاية للصبر أو حدوداً ، بل ان صبر المؤمنين لا ينتهي حتى يصلوا إلى يوم القيامة فيلاقوا ربهم ، حيث يوفيهم أجورهم بغير حساب ، وهو الأمر المتوقع لصبر كان بلا حدود .
عدالة الاقتصاد
﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ 17
من القيم المثلى في الحياة العدالة . وان العدالة ـ كما هو واضح ـ تتجلى في أبعاد مختلفة من حياة الإنسان ؛ ومن أبرز تلك الأبعاد ، بعد العدل الاقتصادي ، المسمى في لغة الفقه باقتصاد المعيشة ، أو بتدبير المعيشة .
واذ كنا في شهر رمضان المبارك نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا ضمن مشروع التوبة النصوح إلى الله عز وجل ، فلابد أن ننظر أيضا إلى وضعنا الاقتصادي وكيف نعيش ؟
ومن الملاحظ إن ابن آدم يعيش في بعض الأحيان ، يعيش إفراطاً أو تفريطاً أو كلاهما معا . بمعنى أنه في بعض الأمور التي لا ينبغي أن يصرف المال والثروة لها تراه يبذر فيها ، وفي الأمور الأخرى التي يجب الاهتمام بها تراه يقبض يده ويقتر ، وهذا لعمري من أسوأ ما يمكن ان يبتلى به الإنسان .
إن من يرغب في التخطيط لاقتصاده ، لابد له أن يحسب حسابات عقلية لا إجتماعية . فمن الخطأ الفظيع أن يحجم الإنسان عن الصرف على تعليم أولاده وتربيتهم ، بينما تراه في الوقت نفسه لا يبخل على توافه الأمور وكماليتها ، وليس ذلك إلا لجلب الانتباه إليه . ومن الخطأ الفظيع أيضا أن نرى البعض يبخل على صحته وسلامته ، في حين أنه يبسط يده كل البسط في نيل شهواته العاجلة . .
وعلى هذه القاعدة ، ينبغي لمن يريد النجاح الاقتصادي في حياته ان يحرز التوازن في صرفه وفيما يريد أن يملك ، كما عليه أن يضع لنفسه أولويات وفق ما يمليه عليه عقله ، ثم يقسم موارده المالية على هذه الأولويات حسب التسلسل ، ثم يرى الذي فضل لديه من الثروة فيصرف منه في أمور أو مشاريع الخير .
لقد قال ربنا تبارك وتعالى في هذا الإطار : ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ... ﴾ 18 . فكل قريب لك له حق عليك ، لأن هذا مصداق لصلة الرحم الواجبة .
ثم قال عز وجل : ﴿ ... وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴾ 18 أي انه في نفس الوقت الذي تشعر بمقربة المسكين وعوز إبن السبيل فتمد لهم يد المعونة وتتضامن معهم إقتصادياً ، تضامناً تحرز بواسطته شيئاً من إنسانيتك ، عليك في الوقت نفسه أن لا تغفل عن المستقبل ، لأن ثمة إلتزامات أخرى بإنتظار العمل بها من جانبك ، ولعل صيغة الإطلاق التي استفادت منها الآية الشريفة تشير مؤكدة إلى أن غفلة المستقبل عمل شيطاني ، ولا ينتهي عمل الشيطان إلى غير الكفر بالله وبنعمه .
المساواة في شهر العدالة
﴿ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ 19
جاء في المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب في جموع المسلمين في آخر جمعة من شهر شعبان المعظم قال فيها " اتّقوا الله ولو بشقِّ تمرة" .
فكيف نتقي الله ، وما هي التقوى قبل كل شيء ؟ وما هو دور شق التمرة ـ كعيّنةٍ صغيرة جداً ـ في مجمل حركة التقوى لدى الإنسان المسلم ؟
إن التقوى هي أن تصونَ نفسك عن نار جهنم ؛ النار المحيطة بذنوبنا وأخطائنا والفواحش التي نقترفها .
والنبي عليه الصلاة والسلام يأمرنا بأن نتّقِ الله في شهر رمضان عبر الإنفاق مهما قلّ ، حتى ولو بشق تمرة ؛ فهذا المقدار يعطينا التقوى ويصوننا ويحفظنا من نيران جهنم اللاهبة . .
إن الحكمة من تشريع فريضة الصيام في شهر رمضان لها صور وأشكال عديدة ، ولعل من أبرزها إحساس الغني بلسعة جوع الفقير ، والبحث عن طريقة مناسبة للتخفيف بنسبة أو بأخرى عن الفقير ، وسدّ خلّته .
ونحن في شهر رمضان علينا أن نتحرك بوعي نحو تحقق المساواة الاجتماعية ، وسدّ الفجوة الفاصلة بيننا وبين الفقراء ومن هو أضعف حالاً منّا وعلى أي مستوى كان .
لقد لفت نظري وجود بعض العادات الجميلة في هذه الدولة الإسلامية أو تلك ، ومنها اجتماع الصائمين الى وجبة الإفطار في المساجد ، وهذه الأرزاق تكون كلها على مائدة واحدة ، حيث يأكل الجميع ؛ فقيرهم وغنيهم ، وضعيفهم وقويهم ، دونما تعفّفٍ عن الغذاء ، أو إحساس بالتفاوت ، فيكون ذلك خطوة في طريق تحقق المساواة ، ولابد للصائمين أن يبحثوا عن طرق أخرى في هذا الإطار كدفع الزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية وما أشبه .
وعلى الضفة الأُُخرى تلزمنا محاولة إعطاء فضل أموالنا للأقرب منا ، كأولي الأرحام والأصدقاء .
إن هذه المساواة ، وهذا الإنفاق في سبيل الله ، وصلة الرحم هذه ، من شأنها جميعاً أن ترفع من مستوى الأمة ، وأن تضاعف من رزقنا ، وأن تزيد بركتنا ، وأن تجعلنا في مستوى معقول من العيش الكريم .
فأن يملك المرء المال والثروة ، فلا يعني ذلك بالضرورة امتلاكه وإحساسه بالسعادة ، بل السعادة بصورتها الأجمل والأروع والأكمل تكون بإحساس الجميع بها وبالراحة والفلاح ، حيث يتم القضاء على الأنانية والتفرقة والاستعلاء 20 .
- 1. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 183 ، الصفحة : 28 .
- 2. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 54 ، الصفحة : 134 .
- 3. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 183 و 184 ، الصفحة : 28 .
- 4. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 18 و 19 ، الصفحة : 548 .
- 5. a. b. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 548 .
- 6. القران الكريم : سورة إبراهيم ( 14 ) ، الآية : 12 ، الصفحة : 257 .
- 7. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 159 ، الصفحة : 71 .
- 8. القران الكريم : سورة النساء ( 4 ) ، الآية : 58 ، الصفحة : 87 .
- 9. القران الكريم : سورة النساء ( 4 ) ، الآية : 58 ، الصفحة : 87 .
- 10. القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 23 ، الصفحة : 421 .
- 11. القران الكريم : سورة الصف ( 61 ) ، الآية : 2 و 3 ، الصفحة : 551 .
- 12. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 153 ، الصفحة : 23 .
- 13. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 153 ، الصفحة : 23 .
- 14. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 109 ، الصفحة : 221 .
- 15. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 45 ، الصفحة : 7 .
- 16. القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 99 ، الصفحة : 267 .
- 17. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 26 و 27 ، الصفحة : 284 .
- 18. a. b. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 26 ، الصفحة : 284 .
- 19. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 273 ، الصفحة : 46 .
- 20. أحاديث رمضانية ، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (كتاب منشور في الموقع الرسمي لسماحته) .