حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
قضايا المرأة وتهافت المنظور السجالي
من يؤرخ لقضية المرأة في مجتمعات العالم العربي والإسلامي خلال القرن الأخير، يكتشف بسهولة أنه تاريخ متلاحق من السجالات والاحتجاجات والمناقشات الساخنة، التي لم تنته أو تتوقف إلى هذا الوقت، ومع دخول العالم القرن الحادي والعشرين. وقد اشتركت في هذه السجالات وبدرجات عالية من الاندفاع والانفعال مختلف النخب والجماعات الفكرية والسياسية التي ظهرت في هذه المنطقة. كما كشفت هذه السجالات عن مدى حساسية هذه القضية وأهميتها وخطورتها في منظورات تلك النخب. الأمر الذي يفسر اتساع الجانب الكمي في الاشتغال بهذه القضية، الاشتغال الذي ولد تراكمات كمية دون أن يكون له أثر كيفي ونوعي في تطوير واقع المرأة، أو تجديد النظر بدرجة كبيرة حول قضاياها.
هذا المنظور السجالي في التعامل مع قضايا المرأة إذا كان قد كرس جانب النقد ورفع من وتيرته، إلا أنه كرس من جهة أخرى قطيعة معرفية بين منظورات تلك النخب والجماعات المتعددة في رؤيتها الفكرية والاجتماعية، وأغلق عليها هوامش الانفتاح وإمكانيات التواصل. لذلك كان الجميع مسكوناً بذهنية الصدام، والتعامل مع هذه القضية على أنها معركة لابد من الانتصار فيها، وبالتالي لابد من مسوغات تبرر لكل طرف مشروعية معركته من خلال توصيفات وتسميات متصادمة. فهي عند البعض معركة من أجل التنوير والنهضة والتقدم، وعند البعض الآخر معركة من أجل العدل والحقوق والمساواة، وعند البعض الثالث أنها معركة من أجل الأخلاق والطهارة والفضيلة. لهذا ظلت قضية المرأة تراوح مكانها في معمعة تلك السجالات، وإذا كانت قد شهدت بعض التقدم إلا أنه في تقدير الجميع يعتبر محدوداًً، ويتحرك بصورة بطيئة.
كما أن هذا المنظور السجالي كان سبباً في النمط التكراري الذي اتصفت به الكتابات حول المرأة عند تلك النخب والجماعات، وضعف من جهة أخرى الجهد التأسيسي المستند على الأدلة والبراهين، والمندفع نحو الكشف والإبداع. لأن التفكير السجالي من طبيعته لا يكون معنياً ومندفعاً نحو الكشف والإبداع بقدر ما يكون معنياً ومندفعاً نحو مواجهة الخصم ومحاججته بالنقد والنقض والتقويض. والتفوق في هذه الحالة ليس بالكشف والإبداع وإنما بالنقد والمحاحجة حيث تختلف عندئذ الأدوات والطرائق المنهجية في عمليات البحث.
والطابع السجالي ينطلق تارة من وقائع وسلوكيات ونماذج، وتارة من أفكار ونظريات وكتابات، فهو إما سجال مع الواقع، وإما سجال مع الأفكار، وإما سجال مع النماذج.
ومن عيوب المنظور السجالي أيضاً، توظيف النقد والمناهج النقدية بطريقة لا تخلو من التعسف أحياناً في النظر والتعامل مع الآخر المختلف، في مقابل الاحتماء بالذات وعدم الاعتراف والإقرار بالنواقص والثغرات. والإفراط أحياناً في الدفاع عن الذات وتزكيتها ما أمكن، حتى لا يستفيد كل طرف من شهادة الآخر. الوضع الذي يعطل ويشل وظيفة النقد التحليلية والتجديدية، فمن جهة يتوجه النقد إلى الآخر من دون الالتفات إلى الذات، ومن جهة أخرى يحصل عدم الانفتاح على نقد الآخر باعتباره في موقعية الخصم الذي لا ينبغي الاعتراف له بفضيلة، وهو ما جعل كل طرف ينغلق على أفكاره ومعارفه، وعلى أدواته وطرائقه، والاكتفاء بخبراته وتجريباته من دون الاستفادة من خبرات الآخر وتجريباته.
ومع كل التحولات والتغيرات التي شهدتها المجتمعات العربية والإسلامية، خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتأثرت بها أوضاع المرأة بصورة كبيرة، مع ذلك ظل الطابع السجالي مهيمناً على منهجية التعامل مع قضايا المرأة، نتيجة سيادة هذا النمط من التعامل لفترة طويلة، بحيث كان من الصعب تجاوزه، أو الخروج عليه إلا في حالات نادرة، فتحددت واصطبغت به تراكمات هذا الحقل، وتأثرت به الطرائق والمنهجيات.
والكتابات والمعالجات الراهنة ظلت متأثرة بتلك التراكمات والمنهجيات، بحيث أصبحنا وكأننا لا نستطيع التعامل مع قضايا المرأة إلا بطريقة سجالية. وما لم تتجاوز الكتابات والمعالجات المعاصرة ذلك النمط السجالي بتراكماته، فإنها سوف تظل تكرر خطاباتها وترواح مكانها، ولن يكون لها تلك الفاعلية المفترضة في تغيير وإصلاح أوضاع المرأة، التي لن تتغير بالتأكيد بالانفعال أو الاشتباك أو التصادم، وإنما بالاجتهادات والمعالجات المتوازنة والرشيدة1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 21 ابريل 2004م، العدد 13752.