الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

لماذا لا توجد لدينا نظرية في حوار الحضارات؟

عندما طرح فوكوياما مقولته حول نهاية التاريخ سنة 1989م، حاول اختبار هذه المقولة في مقالة قصيرة نشرها في مجلة ناشيونال أنترست الأمريكية، وبعد أن تصدرت هذه المقولة العناوين الرئيسية في بعض المجلات الأمريكية الشهيرة مثل التايم، والنيوزويك وغيرهما، وتحولت في فترة قياسية حسب قول الكاتب الأمريكي ألن ريان إلى رعشة في كل العالم، وأصابت الكثير من القراء بالذهول، وبسبب ما أحدثته هذه المقولة من جدل وسجال على نطاق عالمي واسع، اندفع فوكوياما إلى تطوير هذه المقولة، بالتوسع في دراستها وتحليلها بالشكل الذي ظهر في كتابه الصادر سنة 1992م، بعنوان: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير).

وحينما طرح صمويل هنتنغتون مقولته حول صدام الحضارات سنة 1992م، حاول هو الآخر اختبار هذه المقولة، في مقالة قصيرة نشرها بمجلة فورين أفيرز الأمريكية، وبسبب ما أثارته هذه المقولة من نقاشات واحتجاجات نقدية وساخنة بين مختلف ثقافات وحضارات العالم، وفجرت حولها حسب قول أستاذ العلوم السياسية الكاتب الأمريكي جيمس كورت، صداماً كبيراً بين الكتاب، هذه النقاشات الاحتجاجية حرضت هنتنغتون على التوسع في دراسة هذه المقولة، وجمع القرائن والأدلة والحوادث والوقائع التي تعزز قناعته بهذه الفكرة، كما ظهر في كتابه الصادر سنة 1996م، بعنوان: (صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي).

في المقابل حينما طرحت فكرة حوار الحضارات، والتي دعا إليها على المستوى العالمي السيد محمد خاتمي في خطابه سنة 1998م، لم يظهر من المثقفين والمفكرين والباحثين العرب والمسلمين اهتمام كبير بتطوير هذه الفكرة، والعمل على تعميقها فكرياً ومعرفياً، والاندفاع نحو طرحها، والدفاع عنها، والتأكيد عليها.

ولم ترتبط هذه الفكرة وتعرف بأسماء تتواصل مع العالم في هذا الشأن، ولم نقدم إضافات فكرية متميزة ومهمة، تساهم في إنماء هذه القضية، وتجديدها وتراكمها.

كما أننا لم نبتكر لأنفسنا فهماً خاصاً بنا حول هذه القضية، الفهم الذي يستند إلى حقائقنا التاريخية، ويرتكز على معاييرنا الفكرية، وينطلق من شروطنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومن دون تكوين هذا القدر من الفهم المستقل، فإن من الصعب علينا التواصل مع العالم في هذا المجال، لأن التواصل في جوهره هو عملية معرفية تنطلق من المعرفة، ويفترض أن تنتهي إليها،  والذي لا يستطيع إنجاز معرفة، فإنه لا يمكن أن يقنع العالم بالتواصل.

ومع أن قضية حوار الحضارات هي من قضايا العالم الكبرى، وهي شديدة الارتباط برؤيتنا وتفكيرنا لمسألتنا الحضارية، ومستقبلنا وعلاقتنا بالعصر والعالم، إلا أنه لم تتخصص لهذه القضية مجلة فكرية واحدة في العالم العربي، تساهم بشكل دائم في دراسة هذه القضية، وتطوير المعرفة بها، وبناء التواصل بين المفكرين والباحثين المهتمين بها، ولكي تكون مثل هذه الخطوة من الصور الحية في تمثل هذه القضية.

وبطموح أكبر، كان يفترض أن ينهض بهذه المهمة، مركز متخصص للدراسات والبحوث يتعامل مع قضية بهذا المستوى، بقدرات علمية رفيعة، وبطريقة تجمع العقول المفكرة والمتخصصة، وبمنهج يراكم المعرفة ويطورها، خصوصاً وأننا أمام مشكلة حساسة وحرجة هي أن معرفتنا عن حضارات العالم، لا نكونها نحن بأنفسنا، ولا نستقل بمعرفة خاصة، وإنما نرجع في الغالب إلى دراسات الغربيين وبحوثهم الموسوعية في هذا المجال، وهي الدراسات المهيمنة على هذا الحقل.

والأشد حساسية وحرجاً من ذلك، أنه حتى معارفنا نحن عن حضاراتنا، أصبحنا نأخذها من دراسات الغربيين، فعمليات التنقيب والحفريات الأثرية والتاريخية التي جرت وتجري في مناطقنا، لسنا من ينهض بها في العادة، وهكذا عمليات البحث والتحقيق، وصيانة المخطوطات المجهولة والقديمة والمتآكلة، بالإضافة إلى حماية الآثار والمواقع الأثرية، والحفاظ عليها والعناية بها، وحتى التشجيع عليها، غالباً ما يأتي من الغربيين، فكيف ندخل في حوار بين الحضارات، ونحن لا نعتمد على أنفسنا حتى في تكوين المعرفة بحضارتنا، ونفتقد من جهة أخرى إلى المعرفة بالحضارات في هذا العالم!1

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 14683.