حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
ما هو الغرب؟
هذا السؤال طرحه الكاتب الفرنسي سيرج لاتوش في كتابه (تغريب العالم) الصادر عام 1989م، وهو سؤال بسيط في ظاهره، لكنه شديد الحساسية في جوهره. ويأتي في سياق الحديث المتعاظم حول نقد وتقويم التجربة التاريخية والحضارية للغرب، على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما أنه يأتي أيضا في سياق الحديث المتجدد حول هوية الغرب، بعد أن تغيرت صورة العالم من جهة، وبعد أن تمدد الغرب في العالم وتغربت مساحات كبيرة منه من جهة أخرى. أي بعد أضخم عملية منظمة وشاملة قام بها الغرب لما يسميه لاتوش نفسه بتغريب العالم، فلم يعد الغرب يتحدد مكانيا وجغرافيا وهو الذي كان يحاول أن يتملك العالم ويجعل من نفسه قطباً ً تدور حوله حركة العالم بطريقة دائرية، ومركزاً يكون العالم تابعاً له، ومحوراً يظل العالم يرجع إليه، ولا يتوقف عن الارتباط به.
ولم يكن هذا السؤال يمثل هاجساً في السابق قبل اكتمال أو قبل وصول تجربة الغرب مع ذاته، ومع العالم بدرجات متقدمة من الاكتمال. وحسب رأي لاتوش فإن ذلك السؤال لم يطرح نفسه عندما انقض الصليبيون والفاتحون الأسبان والمستعمرون على العالم، عندما كانت العقيدة تخرج العالم المسيحي عن طوره، وعندما كان اليقين في الاضطلاع بعبء التنوير يدفع الغزاة الإمبراطوريين إلى رسالتهم الحضارية، ولم يكن لدى الغرب أي نزوع إلى الشك أو يكاد في اليقين الراسخ في حقه المطلق وحتى واجبه، فقد كان الغرب موجوداً حقاً في ذاته ولذاته، بوصفه عالماً مسيحياً في البداية، ثم بوصفه أوروبا التنوير بعد ذلك.
وعندما يطرح ذلك السؤال اليوم فلأنه قد ولى كما يضيف لاتوش زمن الحقائق اليقينية البسيطة وتسلل الشك، وتزعزع اليقين. وأصبح البحث عن تعريف دقيق للغرب يمثل مهمة يعتبرها لاتوش محفوفة بالأخطار لكنها مع ذلك تعد ضرورية، وأنه ليس من السهل أن نفهم فهماً كاملاً لا النوع المميز للغرب ولا اختلافه النوعي.
والتعريف الذي يطرحه لاتوش عن الغرب كما تشكل تاريخياً، ويناقشه لأن صورته قد تغيرت اليوم. وذلك الغرب كان يمكن النظر إليه ضمن كيان جغرافي هو أوروبا، وضمن ديانة هي المسيحية، وضمن فلسفة هي التنوير، وضمن عرق هو العرق الأبيض، وضمن نظام اقتصادي هو الرأسمالية. هذا عن الأمس أما عن اليوم فإن الغرب حسب رأي لاتوش لم يعد غرباً، والرجل الأبيض لم يعد رجلاً أبيضا، ولم يعد الغرب أوروبا لا جغرافيا ولا تاريخيا، ولم يعد يمثل مجموعة منسجمة من المعتقدات التي تشترك فيها جماعة بشرية تجوب الكرة الأرضية. وجميع هذه الملامح والمكونات قد تغيرت وانقلبت في نظر لاتوش. فهل يمكن اليوم اختزال الغرب إلى كيان عرقي؟ يجيب لاتوش لا جدال بأن القرن التاسع عشر آمن بتفوق العرق الأبيض، وسوف تصبح مهمة تمدين العالم عبء الرجل الأبيض هذا عن الأمس، أما عن اليوم فالنجاح الأكيد لليابان الذي خلص آسيا من أسطورة الرجل الأبيض تشكل تحدياً رهيباً لتفوق العرق الأبيض.
وهل يمكن استيعاب الغرب في كيان ديني؟ يجيب لاتوش لقد ظل تغريب العالم زمانا طويلاً، ولم يكف تماماً عن أن يكون تنصيراً غير أن العالم المسيحي كيان غير متجانس، والإلحاد المعاصر أو على الأقل اللامبالاة الدينية تمنعنا والكلام إلى لاتوش من أن نرى الغرب عالماً مسيحياً. كما أن اختزال الغرب إلى الإيديولوجية الخالصة للعالمية الإنسانية خادع للغاية. وعن اختزال الغرب في الرأسمالية يقولا لاتوش يبدو حقاً أن الرأسمالية هي على وجه التحديد مظهر من مظاهر الخصوصية للغرب وليست طبيعته الجوهرية. فما هو الغرب إذن؟ يرى لاتوش أن الغرب قد تحول إلى وحدة تركيبية من تلك التجليات المتباينة، وأصبح كياناً ثقافياً وظاهرة حضارية.
وهناك من يرى بأن اختيار وصف الغرب جاء بقصد أن لا يكون للدين أي دور مركزي في الحضارة الأوروبية، ويذهب إلى هذا الرأي الأكاديمي جيمس كورت الذي يرى بأن مصطلح الحضارة الغربية لم يظهر إلا في القرن العشرين، وهو مصطلح يتضمن إدراك أن هذه الحضارة على عكس غيرها من الحضارات لا تضع الدين في مكانة مركزية، وأنها الحضارة الوحيدة غير الدينية، وهذا هو الفرق الجذري كما يعتقد كورت بين الغرب وغيره من الحضارات.
وفي وقت سابق أشار روجيه غارودي المعروف بنزعته النقدية إلى أن من الوهم اعتبار الغرب هو بداية مطلقة، وبأنه انبجس كنبتة نمتنع عن تعقب جذورها، منعزلة ووحيدة كنوع من معجزة تاريخية، ذلك هو إضفاء قناع على الجوهر. ويرى غارودي بأن ما اصطلح على تسميته بالغرب قد ولد في الهلال الخصيب وفي مصر، أي في آسيا وأفريقيا، إذا نحن امتنعنا عن اعتبار الغرب كيان جغرافي، ونظرنا إليه كحالة فكرية موجهة إلى السيطرة على الطبيعة والناس.
والحقيقة بأن التغير الجذري والجوهري لمفهوم الغرب لن يتحقق إلا حينما يقرر الغرب بأن لا يحتكر الحضارة لنفسه1!
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 14 يناير 2004م، العدد 13654.