الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

مقام الصالحين في القرآن

نص الشبهة: 

قال تعالى على لسان النبيِّ سليمان (ع): ﴿ ... وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فهل معنى هذا الطلب أنَّه عليه السلام لم يكن من الصالحين؟ وكذلك قوله تعالى: ﴿ ... وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ في شأن النبيِّ إبراهيم (ع)، هل معناه أنَّه لم يكن من الصالحين في الدنيا؟!

الجواب: 

ليس المرادُ من عنوان الصالحين في الآية الأولى -وكذلك الثانية- المعنى المُقابل للفاسدين فإنَّ الدعاء بذلك مِن تحصيل الحاصل، إذ لا يكون العبدُ نبيَّاً حتى يكونَ صالحاً بهذا المعنى، وقد وصف اللهُ تعالى بعضَ أنبيائه بالصالحين بعد أنْ نعتهم بأوصافٍ هي أعلى من وصف الصالحين بالمعنى المقابل للمفسدين وهو ما يُؤكِّد عدم إرادة هذا المعنى من هذا العنوان.
قال تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ 1 فالآية قد وصفت يحيى (ع) بأنَّه من الصالحين رغم أنها قد وصفته قبل ذلك بأنَّه من الأنبياء.
وقال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ 2 فالآية امتدحت عيسى (ع) بالوجيه في الدنيا والآخرة وانَّه من المقربين، وأخبرت عن إكرام الله تعالى له بأنْ منحَه القدرةَ على الكلام في المَهد، وكلُّ هذه النعوت تفوق الوصف بالصلاح بالمعنى المقابل للفساد والضلال، وهو ما يُؤكِّد أنَّ المراد من قوله:  ﴿ ... مِنَ الصَّالِحِينَ 3 ليس هو المعنى المقابل للفساد.
وكذلك هو قوله تعالى: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ 3 وقوله تعالى: ﴿ وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ... 4 ﴿ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ 5
وبناءً على ذلك فإنَّ الظاهر من قولِه تعالى: ﴿ ... وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ 6 أنَّ ثمة درجةً عند الله تعالى لا يحظى بها الكثيرُ من عباده حتى الأبرار منهم، هذه الدرجة يمكن التعبير عنها بمقام الصالحين، فسليمانُ (ع) رغم أنَّ له مقام النبوَّة إلا أنَّه يطمح في أن يمنحَه اللهُ عزَّ وجلَّ هذه الدرجة، لذلك سأل ربَّه جلَّ وعلا أنْ يجعله ضمن مَن يحظَونَ بهذا المقام.
والمؤكِّدُ لإرادة هذا المعنى من الآية مضافاً لِما ذكرناه قولُه تعالى إخباراً عن حال إبراهيم: ﴿ ... وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 7 وقولُه تعالى: ﴿ ... وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 8 وقوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ 9 فإنه لا معنى للإخبار عن أنَّ إبراهيم يكون في الآخرة من الصالحين بالمعنى المقابل للفاسدين.
فإنَّه بعد أن كان إبراهيم (ع) ممن اصطفاهم الله تعالى لرسالته وهو كما أخبر القرآن عنه بأنَّه:﴿ ... كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ... 10 وأنَّه من المُوقنين وقد أراه اللهُ ملكوتَ السماوات والأرض قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ 11 وقال عنه: ﴿ ... إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ 12 و ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ 13وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ 14 وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ 15 وقد جعَلَ له مقامَ الإمامة فقال جلَّ وعلا: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... 16.
فبعد كلِّ هذه النعوت التي لم يحظَ بها أكثرُ الأبرار من عباد الله تعالى لا يصحُّ استظهار إرادة الصالحين بالمعنى المقابل للفاسدين من قوله تعالى: ﴿ ... وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 8، بل يتعيَّنُ استظهار أنَّ معنى الصالحين عنوانٌ لوسامٍ من الأوسمة الإلهيَّة التي يمنحُها اللهُ عز وجل للخاصَّة من أوليائه.
وأما أنَّ إبراهيم (ع) في الآخرة من الصالحين فهذا لا يعني أنه ليس منهم في الدنيا، وذلك لأن معنى: ﴿ ... وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 8 هو أن جزاءه في الآخرة هو جزاء من مُنح وسام الصالحين. فالآيةُ بصدد بيان المرتبة من النعيم التي سيُمنحُها إبراهيم يوم القيامة.
فالآيات الثلاث كانت بصدد بيان ما منحَه اللهُ عزَّوجل لإبراهيم في الدنيا وما سيمنحه إيَّاه في الآخرة، فالآية الأولى أفادت أنَّه تعالى قد منحَه الإصطفاء في الدنيا وهو في الآخرة من الصالحين، والآيةُ الثانية أفادت أنه تعالى أعطاه أجرَه في الدنيا وإنَّه في الآخرة من الصالحين، والآية الثالثة أفادت أنَّه أعطاه في الدنيا حسنة وإنَّه في الآخرة من الصالحين، فقوله تعالى: ﴿ ... وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ 8 بيانٌ لما سيُعطاه إبراهيم في الآخرة وأنَّه سيُعطى النعيم الذي ادَّخره الله تعالى لمن حظيَ بمقام الصالحين.
وهكذا فإنَّ معنى قول سليمان (ع): ﴿ ... وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ 6 هو إمَّا إنَّه يسأل اللهَ تعالى أنْ يمنحَه مقامَ الصالحين أو إنَّه يسأل الله تعالى أن يمنحَه النعيم الذي فرضَه الله في الآخرة لمن حظَي بمقام الصالحين.
وكلاهما ينتهيان إلى معنىً واحد وهو الدعاء بأنْ يجعلَه اللهُ تعالى ضمن مَن منحهم مقامَ الصالحين، إذ أنَّ كلَّ من أُعطي هذه المرتبة فإنَّه سوف يحظى في الآخرة بنعيم هذه المرتبة.
وأما ما هي حقيقة مقام الصالحين فهو أمر لا نُدركه، وكلُّ ما نعلمُه هو أنَّ مقام الصالحين من المقامات السامية عند اللهِ تعالى ويطمح في نيلِها حتى الأنبياء كما هو المُستفاد من قوله تعالى على لسان سليمان: ﴿ ... وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ 6 وقوله تعالى على لسان إبراهيم: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ 17 وقولِه تعالى على لسان يوسف (ع): ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ... 18 ﴿ ... تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ 18فدعاء يوسف بأن يُلحقه اللهُ بالصالحين كان بعد النبوَّة وبعد أن علَّمه اللهُ تأويلَ الأحاديث، وهو ما يُعبِّر عن سموِّ المقام الذي يسأل يوسفُ ربَّه أنْ يمنحه إيَّاه ويُلحقه بَمن حظيَ به من عبادِه.
وقد ورد في الروايات أنَّ الصالحين هم النبيُّ (ص) والأئمةُ من أهل بيتِه (ع) 19.
ويمكن تأييد ذلك بقوله تعالى لنبيِّه محمد (ص): ﴿ ... قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 20.
وكذلك يمكن تأييده بقولِه تعالى: ﴿ ... وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ... 21، فقد ورد في الروايات من طرقِنا وطرقِ العامَّة أنَّ صالح المؤمنين هو عليُّ بن أبي طالب (ع)22.
وكذلك وردَ من طرقِنا وطرقِ العامَّة عن الرسول الكريم (ص) أنَّه قال لفاطمة (ع) بعد أن زوَّجها من عليٍّ (ع): "والذي نفسي بيدِه لقد زوَّجتُك سيِّداً في الدنيا وأنَّه في الآخرة لمن المصلحين" 23. فالنبيُّ (ص) يُقسم بالله تعالى أنَّ عليَّاً ممَّن له مقامُ الصالحين. وورد أيضاً عن أسماء بنت عميس قالت لمَّا نزل قولُه تعالى: ﴿ ... وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ 21 قال النبيُّ (ص) لعليٍّ: ألا أُبشِّرُك إنَّك قُرنتَ بجبرئيل ثم قرأَ الآيةَ فقال: فأنتَ والمؤمنون من أهل بيتِك الصالحون.
روى ذلك القندوري في ينابيع المودة عن أبي نعيم الحافظ والثعلبي وقال أخرجا بسنديهما عن أسماء بنت عميس، وروى قريباً منه الحاكمُ الحسكاني في شواهد التنزيل بسنده عن عمَّار بن ياسر وقال: رواه أيضاً السبيعي 24 25.