الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الاعراس والحدود الشرعية

من الواضح جدًا لأي ناقد من منظور إسلامي وشرعي أن كل الأعراس التي تنتشر اليوم في ساحتنا الإسلامية ليست متطابقة مع أغلب الشروط الشرعية والمواصفات المطابقة للأحكام الفقهية، سواء من ناحية الشكل، كالأعراس التي صارت تقام في الصالات المعدّة لذلك، أو من حيث المضمون كمظاهر الزينة التي صارت حالات فاقعة جدًا أو خارجة عن حدود ما هو المتعارف، وكطريقة التعاطي داخل الصالات من جهة اللباس غير المحتشم الذي ترتديه النساء والذي قد يصل في بعض الحالات كما نقل إلينا إلى حد أنه نعتبر أنّ الأعراس صارت معارض للألبسة، فضلاً عن تصوير تلك الأعراس وما قد يؤدي في الكثير من الأحيان إلى تسرّب هذه الصور مع ما فيها من هتك الحرمات وخصوصًا بسبب انتشار الهواتف القادرة على التصوير، وما يرافق العرس من مظاهر التفاخر والتباهي أمام الآخرين بأن العرس الذي أقمناه هو الأحسن وما شابه، وكأن الأعراس صارت مسرحًا للتسابق والتباري لمن ينفق أكثر وسيتقدم مدعوين بأعداد أكبر، إلى ما هنالك من قضايا أخرى سنتعرض لها.

ومنطلق الكلام بعد هذه المقدمة نقول بأن الإسلام أقرّ الأعراس لما فيها من مظاهر الفرح والسرور وإدخال البهجة على النفوس والقلوب، ولأنّ الأعراس هي المفتاح للشخصين اللذين يدخلان إلى عالم الزوجية من خلال مظاهر الفرح لإضفاء السعادة على بداية دخولهما إلى نمط جديد من الحياة بعدما كانا منفردين كل في منزل أهله أو من كان يرعى كل منهما.

لكن إباحة الإسلام للأعراس ليست مطلقة إلى الحد الذي يذهب إليه أهل العروسين إلى اختراق حاجز الحدود الشرعية، وتجاوز الاعتبارات الأخلاقية والسلوكية والتربوية، والأعراس  أيضًا ليست مغلقة بالمطلق على أنواع من الفرح والسرور اللذين يلازمان كل عرس بحسب العرف والعادة.

وأول مظهر سلبي سنتحدث عنه هو "الزينة"حيث تقضي العروس ساعات عند "المزينات" مع ما يكلف ذلك من مال ووقت، وكذلك بالنسبة إلى العريس، فضلاً عن أرحام العروسين وأصدقائهما، وما يرتبه حضور العرس من شراء للملابس الجديدة لكل عرس من هذه الأعراس، فإذا لاحظنا تكاليف هذا المظهر السلبي وحده، نجد بأن نفقاته تصل إلى حدود أنه بذلك المبلغ الذي لو جمعناه لأمكننا أن نفرِّج به همّ الكثير من الناس الفقراء والمحتاجين، ولا يفهم أحد من قولنا هذا أننا نحرم "الزينة" للعروسين، فهذا لا تحريم فيه بحد ذاته، بل الحرمة في الجانب السلبي منه وهو "الإسراف" و"الإنفاق الخارج عن المألوف"، وإن حاول البعض أن يبرر أن هذا الأمر صار متعارفًا وعاديًا، وهذا غير صحيح، لأن الخطأ في التصرف ولو صار شائعًا لا يجعله حلالاً وهو محل إشكال من الناحية الشرعية، بل يصبح محرمًا لأن الله تعالى قال (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكانوا بين ذلك قوامًا)﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾ 1، وقال تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسوراً)﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ 2.

وثاني مظهر سلبي في الأعراس هو "الغناء والموسيقى"، فقد انتشرت هذه العادة انتشاراً واسعاً جدًا في الأعراس ، وصار هناك فِرقٌ من المغنيات متخصصات بالغناء في الأعراس، وللأسف خرجت هذه الحالة عن كل الضوابط الشرعية سواء من ناحية الغناء، أو من ناحية الموسيقى المحرمة التي صار فيها استعمال آلات الموسيقى أمرًا عادياً، وبدونه لا يكون العرس عرسًا، بل مجرد تجمع للنساء لا أكثر كما هو رأي غالبية النساء اللواتي يحضرن الأعراس ، ومع ما يترافق مع الغناء من الرقص المتعارف عند راقصات أهل الفسق والفجور، بحيث لم يعد الفارق موجوداً سوى في مجرد التسمية بأن الرقص في الأعراس يعتبرونه حلالاً لا حرمة فيه، بينما الراقصات يرتكبن العمل المحرم، وهذا مورد اشتباه كبير عند معظم أخواتنا اللواتي يحضرن الأعراس من أجل الرقص بمعناه المعروف والشائع، مع أن فتاوى مراجعنا العظام تجيز الرقص بمعنى مجرد التمايل وإظهار الفرح من دون الوصول إلى ما هو المتعارف عند راقصات أهل الفسق والفجور، ولذا نرى أن الإمام القائد السيد الخامنئي "دام ظله" حرم الغناء مطلقًا حتى في الأعراس، لأن هذا الأمر خرج عن كل الضوابط الشرعية التي كانت تنظم وتشرِّع هذا الأمر، وكذلك حرم الغناء عدد آخر من مراجعنا العظام أيدهم الله تعالى حتى في ليلة الزفاف، ووفقًا للروايات الدالة على تحريم مطلق الغناء من دون استثناء الغناء في الأعراس.

وثالث مظهر سلبي هو "الاختلاط" وحجة ذلك أنه ولو حصل الاختلاط إلا أن النساء يلتزمن الحجاب الشرعي وكأن هذا الأمر وحده كاف ليصبح الاختلاط جائزًا أو مباحًا، وهنا يوجد اشتباهًا كبيرًا أيضًا، لأن النساء اللواتي يحضرن في العرس المختلط يظهر على وجوههن آثار الزينة من المساحيق وأدوات التجميل وهذا الأمر يكون ظاهراً للجميع حتى للرجال الأجانب عن تلك النسوة، ومن المعلوم عندنا في الفقه والأحكام الشرعية أن المرأة لا يجوز لها إظهار الزينة امام الرجال غير المحارم، ومجرد ارتداء الحجاب لا يكفي، ومن هنا يصبح الاختلاط حرامًا في الأعراس لأنه مورد للوقوع في المحرمات والشبهات الشرعية، وبدلاً من أن يكون العرس أمراً مباحاً ومستحبًا يصبح أمراً محرماً.

وخلاصة القول دون الاستغراق في التفاصيل الأخرى أن معظم أعراسنا لم تعد متناسبة مع ذوق الشريعة الإسلامية وصارت محرمة لما تحتويه من محرمات في الزينة واللباس والغناء والموسيقى والرقص والإسراف والتبذير في صرف المال، فقط لمجرد التباهي والتفاخر والتشبه بأهل الدنيا، وأهل الفسق والفجور، ومجرد أن الأعراس هي للملتزمين كما يدّعون ويقولون، فهذا لا يكفي لكي تكون الأعراس محللة، لأن العبرة في التصرفات لا في التسميات.

ومن كل ما سبق نقول (إن العرس الموافق لأحكام الشريعة الاسلامية الغراء يجب أن تراعى فيه كل الضوابط الشرعية التي ذكرها فقهاؤنا الحاليون والسابقون ايضاً).

ويمكن أن نأخذ مثالاً على الزواج الإسلامي المراعي للحدود الشرعية هو "زواج الزهراء" (ع) من الإمام أمير المؤمنين (ع)، والذي أشرف عليه رسول الله (ص) وكان على الشكل التالي:

أولاً: الوليمة: وهي من المستحبات المؤكدة في العرس الإسلامي وهي البديل المناسب عما يقدّم في أعراسنا اليوم ويمكن أن تكون تكاليفه أقل، وليس من الضروري أن تكون الوليمة متضمنة لأنواع كثيرة من الطعام، بل يمكن الاكتفاء بنوع واحد مع توابعه، أما الوليمة التي أقامها النبي (ص)، فقد أمر بنحر جملين وجعل من لحمهما وليمة وأطعم الناس.

ثانياً: ركوب "العروس" في سيارة مثلاً، كما أركب النبي (ص) الزهراء (ع) على فرسه "الشهباء" ، والسيارة هنا محل الجمل وفق تطور وسائل النقل، ثم تسير وراءها السيارات التي يركب فيها أهل العروسين والمدعوين، والقيام بجولة سيارة من دون إزعاج الناس بأبواق السيارات كما يحصل اليوم للأسف، مما سيبب ازعاجاً للناس واقلاق راحتهم.

ثالثاً: مكان العرس، وهنا ليس من الضروري أن يكون العرس في "الصالات" التي تكلف المبالغ الطائلة، بل يمكن أن يكون في بيت "أهل العروس" مع التخفيف من أعداد المدعوين للتمكن من القيام بواجب الضيافة على الوجه الجيد والحسن، ويجتمع "أهل العريس" في منزلهم مع مدعويهم، وعند مجيء الموعد ينطلق أهل العريس إلى منزل أهل العروس، وينطلق الجميع في جولة سيارة إلى "منزل العروسين"، وأن يكون والد العروس، أو من هو من أرحامها المقربين آخر من يودعهما كما فعل النبي (ص) في زفاف السيدة فاطمة الزهراء (ع).

رابعًا: الإنشاد، وهنا يمكننا  أن نستعيض عن الغناء والموسيقى المحرمين بمدائح عن النبي (ص) وأهل بيته المعصومين (ع) كما ورد في عرس الزهراء (ع) أن "أم سلمة" زوج النبي (ص) قد ارتجزت شعرًا جميلاً جاء فيه:

سرن بعون الله جاراتي واشكرنه في كل حالاتِ

واذكرن ما أنعمَ رب العلا من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر، وقد أنعشنا رب السموات

سرن مع خير نساء الورى تُفدى بعمات وخالاتِ

يا بنت من فضّله ذو العلا بالوحي منه والرسالاتِ3

ونحن هنا وطبقًا لضرروات الزمان والمكان أن نقوم بالتأسي في أعراسنا بعرس الزهراء (ع)، من دون كل الضجيج والصخب وتضييع الوقت والإسراف في صرف المال في الأعراس المنتشرة اليوم بصورتها المشوهة شرعًا، والبعيدة عن عاداتنا وتقاليدنا الإسلامية التي كانت حتى الأمس القريب معمولاً بها في أعراسنا وأفراحنا، إلا أن محاولتنا في تقليد الآخرين في أعراسهم أوصلتنا إلى المستوى الذي خرجنا فيه في أعراسنا عن كل ضوابطنا الشرعية والأخلاقية.

من هنا نوجه الدعوة الأخوية والصادقة إلى كل أهلنا المسلمين أن نعود إلى أعراسنا ونعطيها السمة الإسلامية التي ترضي الله ورسوله (ص) وأهل البيت (ع) الذين هم قدوتنا وقادتنا وربابنة سفينة نجاتنا في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين4.