الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

السفر إلى الحجاز

وصلت إلى جدة و التقيت صديقي البشير الذي فرح بقدومي و أنزلني في بيته ، و أكرمني غاية الإكرام ، و كان يقضي أوقات فراغه معي في النزهة و المزارات بسيارته ، و ذهبنا للعمرة معا و عشنا أياما كلها عبادة و تقوى ، و اعتذرت له عن تأخري لبقائي في العراق و حكيت له عن اكتشافي الجديد أو الفتح الجديد ، و كان متفتحا و مطلعا فقال : فعلا أنا أسمع أن فيهم بعض العلماء الكبار و عندهم ما يقولون ، و لكن عندهم فرقا كثيرة كافرة منحرفة يخلقون لنا مشاكل متعددة في كل موسم للحج .
سألته ما هي هذه المشاكل التي يخلقونها ؟ .
أجاب : إنهم يصلون حول القبور ، يدخلون البقيع جماعات فيبكون و ينوحون و يحملون في جيوبهم قطعا من الحجارة يسجدون عليها ، و إذا ذهبوا إلى قبر سيدنا الحمزة في أحد فهناك يقيمون جنازة بلطم و عويل و كان الحمزة مات في ذلك الحين ، و من أجل كل ذلك منعتهم الحكومة السعودية من الدخول إلى المزارات .
ابتسمت ، و قلت له : أ لهذا تحكم عليهم بأنهم منحرفون عن الإسلام ؟ .
قال : هذا و غيره ، أنهم يأتون لزيارة النبي و لكنهم في نفس الوقت يقفون على قبر أبي بكر و عمر و يسبونهما و يلعنونهما و منهم من يلقي على قبر أبي بكر و قبر عمر القذارات و النجاسات .
و ذكَّرَني هذا القول بالرواية التي سمعتها من والدي غداة رجع من الحج و لكنه قال بأنهم يلقون القذارات على قبر النبي ، و لا شك بأن والدي لم يشاهد ذلك بعينيه لأنه قال : شاهدنا جنودا من الجيش السعودي يضربون بعض الحجاج بالعصي و لما استنكرنا عليهم إهانتهم لحجاج بيت الله الحرام : أجابونا بأن هؤلاء ليسوا من المسلمين فهم من الشيعة جاؤوا بالقذارات ليلقوها على قبر النبي ، قال والدي : عند ذلك لعناهم و بصقنا عليهم .
و ها أنا الآن أسمع من صديقي السعودي المولود في المدينة المنورة بأنهم يأتون لزيارة قبر النبي و لكنهم يلقون النجاسات على قبر أبي بكر و عمر ، و شككت في صحة الروايتين ، لأني حججت و رأيت أن الحجرة المباركة التي يوجد فيها ضريح النبي و أبي بكر و عمر مغلقة و لا يمكن لأي شخص أن يقترب منها للتَّمَسُح على بابها أو شباكها ، فضلا على أن يلقي فيها أشياء ، أولا ، لعدم وجود فجوات و ثانياً لوجود حراسة مشددة من الجنود الغلاظ الذين يتداولون على الرقابة و الحراسة أمام كل باب و في أيديهم سياط يضربون بها كل من يقترب أو يحاول أن ينظر داخل الحجرة ، و الغالب على الظن أن بعض الجنود من السعودية و هم يكفرون الشيعة ، رماهم بهذه التهمة ليبرر ضربه لهم ، و حتى يستفز المسلمين لمقاتلتهم أو على الأقل ليسكتوا على إهانتهم ، و يروجوا إذا رجعوا إلى بلدانهم أن الشيعة يبغضون رسول الله و يلقون على قبره النجاسات ، و بذلك يضربون عصفورين بحجر واحد .
و هذا نظير ما حكاه أحد الفضلاء ممن أثق بهم إذ قال : كنا نطوف بالبيت فإذا بشاب " أصابه مغص من شدة الزحام فتقيأ " ، و ضربه الجنود الذين كانوا يحرسون الحجر الأسود و أخرجوه و هو في حالة يرثى لها و اتهموه بأنه جاء بالنجاسة لتوسيخ الكعبة و شهدوا عليه و أعدم في نفس اليوم .
و جالت بخاطري هذه المسرحيات و بقيت أفكر برهة في تعليل صديقي السعودي لتكفير هؤلاء الشيعة ، فلم أسمع غير أنهم يبكون و يلطمون و يسجدون على الحجر و يصلون حول القبور ، و تساءلت أفي هذا دليل على تكفير من يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله ؟ و يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة و يصوم رمضان و يحج البيت و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر .
و ما أردت معاندة صديقي و الدخول معه في جدال لا طائل من ورائه فاقتصرت على القول : هدانا الله و إياهم إلى صراطه المستقيم و لعن الله أعداء الدين الذين يكيدون للإسلام و المسلمين .
و كنت كلما طفت بالبيت العتيق خلال العمرة و في كل زيارة لمكة المكرمة ، و لم يكن يطوف بها إلا نفر قليل من المعتمرين ، صليت و سألت الله سبحانه من كل جوارحي أن يفتح بصيرتي و يهديني إلى الحقيقة .
وقفت على مقام إبراهيم ( عليه السلام ) و استعرضت الآية الكريمة : ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ 1، صدق الله العظيم .
و بدأت أناجي سيدنا إبراهيم أو أبانا إبراهيم كما سماه القرآن :
- يا أبتاه ، يا من سميتنا المسلمين ، ها قد اختلف أبناؤك من بعدك فأصبحوا يهودا و نصارى و مسلمين ، و اختلف اليهود فيما بينهم إلى أحدى و سبعين فرقة و اختلف النصارى إلى اثنتين و سبعين فرقة ، و اختلف المسلمون إلى ثلاث و سبعين فرقة و كلهم في الضلالة حسبما أخبر بذلك ابنك محمد و فرقة واحدة بقيت على عهدك يا أبتاه ! .
أهي سنة الله في خلقه كما يقول القدرية ، فالله سبحانه هو الذي كتب على كل نفس أن تكون يهودية أو نصرانية أو مسلمة ، أو ملحدة ، أو مشركة ، أم أنه حب الدنيا و الابتعاد عن تعاليمه سبحانه ، ذلك بأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، إن عقلي لا يطاوعني بتصديق أن القضاء و القدر هو الذي حتم مصير الإنسان ، بل أميل و أكاد أجزم بأن الله سبحانه خلقنا و هدانا و ألهمنا الفجور و التقوى ، و أرسل إلينا رسله ليوضحوا لنا ما أشكل علينا و يعرفوننا الحق من الباطل ، و لكن الإنسان غرته الحياة الدنيا و زينتها ، الإنسان بأنانيته و كبريائه ، بجهله و فضوله ، بعناده و لجاجته ، بظلمه و طغيانه مال عن الحق و اتبع الشيطان و ابتعد عن الرحمن فورد غير مورده ، و أكل غير مأكله ، و قد عبر القرآن الكريم عن ذلك أحسن تعبير و أوجزه بقوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ 2.
يا أبانا إبراهيم ، لا لوم على اليهود و النصارى الذين عاندوا الحق بغيا بينهم لما جاءتهم البينة ، فها هي الأمة التي أنقذها الله بولدك محمد و أخرجها من الظلمات إلى النور و جعلها خير أمة أخرجت للناس ، فهي الأخرى اختلفت و تفرقت و كفر بعضها بعضا ، و قد حذرهم رسول الله و نبههم إلى ذلك و ضيق عليهم حتى قال : " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث " فما بال هذه الأمة قد انقسمت و افترقت و أصبحت دويلات يعادي بعضها البعض و يحارب بعضها البعض و يكفر بعضها البعض و حتى لا يعرف بعضها البعض الآخر ، فيهجره طيلة حياته ، ما لهذه الأمة يا أبانا إبراهيم بعد ما كانت خير الأمم و قد ملكت الشرق و الغرب و أوصلت للناس الهداية و العلوم و المعرفة و الحضارة ، إذا بها اليوم أصبحت أقل الأمم و أذلها فأراضيهم مغتصبة و شعوبهم مشردة و مسجدهم الأقصى تحتله عصابة من الصهاينة و لا يقدرون على تحريره ، و إذا زرت بلدانهم فإنك لا ترى إلا الفقر المدقع و الجوع القاتل و الأراضي القاحلة ، و الأمراض الفتاكة و الأخلاق السيئة ، و التخلف الفكري و التقني ، و الظلم و الاضطهاد ، و الأوساخ و الحشرات ، و يكفيك فقط أن تقارن بيوت الراحة " المراحيض " العمومية كيف هي في أوروبا و كيف هي عندنا ، فإذا دخل المسافر إلى المراحيض في أوروبا بأسرها وجدها نظيفة تلمع كالبلور و فيها روائح طيبة بينما لا يطيق المسافر إلى البلاد الإسلامية الدخول إلى المراحيض لعفونتها و نجاستها و نتونتها و نحن الذين علمنا الإسلام " إن النظافة من الإيمان و الوسخ من الشيطان " ، فهل تحول الإيمان إلى أوروبا و سكن الشيطان عندنا ؟ لماذا أصبح المسلمون يخافون من إظهار عقيدتهم حتى في بلدانهم ، و لا يتحكم المسلم حتى في وجهه فلا يتمكن من إعفاء لحيته و لا من لبسه الزي الإسلامي بينما يتجاهر الفاسقون بشرب الخمر و الزنا و هتك الأعراض و لا يقدر المسلم دفعهم بل و لا حتى أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر و قد بلغني أن في بعض البلاد الإسلامية مثل مصر و المغرب من يبعث الآباء بناتهم للبغاء من شدة الفقر و البؤس و الاحتياج فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
يا إلهي لماذا ابتعدت عن هذه الأمة و تركتها تتخبط في الظلمات ، لا ، لا ، أستغفرك يا إلهي و أتوب إليك ، فهي التي ابتعدت عنك عن ذكرك ، و اختارت طريق الشيطان ، و أنت جلت حكمتك ، و تعالت قدرتك قلت ، و قولك الحق : ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ 3، و قلت أيضا : ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ 4.
و لا شك أن ما وصلت إليه الأمة الإسلامية من الانحطاط و التخلف و الذلة و المسكنة لدليل قاطع على بعدها عن الصراط المستقيم ، و لا شك أن القلة القليلة أو الفرقة الواحدة من بين ثلاثة و سبعين ، لا تؤثر في مسيرة أمة بأكملها .
و قد قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) " لتأمرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم " .
ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين .
سافرت إلى المدينة المنورة محملا برسالة من صديقي بشير إلى أحد أقربائه لكي أقيم عنده مدة بقائي هناك ، و قد كلمه من قبل بالهاتف ، و استقبلني هذا الأخير و رحب بي و أنزلني في بيته و توجهت فور وصولي إلى زيارة رسول الله ، فاغتسلت و تطيبت ، و لبست أحسن ثيابي و أطهرها ، و كان الزوار قليلين بالنسبة إلى موسم الحج فتمكنت من الوقوف أمام قبر رسول الله و أبي بكر و عمر ، و لم أكن أتمكن من ذلك في موسم الحج لكثرة الازدحام ، و حاولت عبثا أن أمس أحد الأبواب للتبرك ، فانتهرني الحرس الواقف هناك ، و كان على كل باب حرس يحرسه ، و لما أطلت الوقوف للدعاء و إبلاغ السلام الذي حملني إياه أصدقائي ، أمرني الحراس بالانصراف ، و حاولت أن أتكلم مع واحد منهم و لكن دون جدوى .
و رجعت إلى الروضة المطهرة حيث جلست أقرأ ما تيسر من القرآن ، و أحسن الترتيل و أعيده مرات لأني تخيلت و كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) يستمع إلي ، و قلت في نفسي أيمكن أن يكون الرسول ميتا كسائر الأموات ، فلماذا نقول في صلاتنا ، السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته بصفة المخاطب ، و إذا كان المسلمون يعتقدون بأن سيدنا الخضر ( عليه السَّلام ) لم يمت و يرد السلام على كل من يسلم عليه بل و أن مشايخ الطرق الصوفية يعتقدون جزما بأن شيخهم أحمد التيجاني أو عبد القادر الجيلاني يأتون إليهم جهارا و يقظة لا مناما ، فلماذا نشح على رسول الله بمثل هذه المكرمة و هو أفضل الخلق على الإطلاق ، و لكن يخفف على نفسي أن المسلمين لا يشحون بذلك على رسول الله ، إلا الوهابية الذين بدأت أنفر منهم لهذا و لعدة أسباب أخرى منها الغلظة التي شاهدتها فيهم و الشدة على المؤمنين الذين يخالفونهم في معتقداتهم . زرت البقيع و كنت واقفا أترحم على أرواح أهل البيت ، و كان بالقرب مني شيخ طاعن في السن يبكي و عرفت من بكائه أنه شيعي ، و استقبل القبلة و بدأ يصلي و إذا بالجندي يأتي إليه بسرعة و كأنه كان يراقب تحركاته و ركله بحذائه ركلة و هو في حالة سجود فقلبه على ظهره و بقي المسكين فاقد الوعي بضع دقائق و انهال عليه الجندي ضربا و سبا و شتما ، و رق قلبي لذلك الشيخ و ظننت أنه مات و دفعني فضولي و أخذتني الحمية و قلت للجندي : حرام عليك لماذا تضربه و هو يصلي ؟ فانتهرني قائلا : أسكت أنت و لا تتدخل حتى لا أصنع بك مثله .
و لما رأيت في عينيه الشر تجنبته و أنا ساخط على نفسي العاجزة عن نصرة المظلوم ، و على السعوديين الذين يفعلون بالناس ما بدا لهم بدون رادع و لا وازع و لا من يُنكر عليهم ، و كان بعض الزائرين حاضرا فمنهم من حَوْقَلَ 5 و منهم من قال : إنه يستحق ذلك لأنه يصلي حول القبور و هو محرم ، فلم أتمالك و انفجرت على هذا المتكلم قائلا : من قال لك أن الصلاة حول القبور حرام ؟ أجابني : قد نهى رسول الله عن ذلك .
فقلت بدون وعي : تكذبون على رسول الله ، و خشيت أن يتألب علي الحاضرون أو ينادوا الجندي فيفتك بي ، فتلطفت قائلا : إذا كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) قد نهى عن ذلك فلماذا يخالف نهيه الملايين من الحجاج و الزوار و يرتكبون حراما لأنهم يصلون حول قبر النبي و قبر أبي بكر و قبر عمر في المسجد النبوي الشريف ، و في مساجد المسلمين في كل العالم الإسلامي ، و على افتراض أن الصلاة حول القبور حرام ، أ فبهذه الغلظة و الشدة نعالجها ؟ أم باللين و اللطف ، و اسمحوا لي أن أروي لكم قصة ذلك الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله بحضرته و بحضرة أصحابه بدون حياء و لا خجل ، و لما قام إليه بعض الصحابة شاهرين سيوفهم ليقتلوه ، نهاهم رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و منعهم و قال : " دعوه و لا تزرموه و هريقوا على بوله دلوا من الماء ، إنما بعثتم لتيسروا لا لتعسروا ، لتبشروا لا لتنفروا " و ما كان من الصحابة إلا أن امتثلوا أمره ، و نادى رسول الله الأعرابي و أجلسه إلى جانبه و رحب به و لاطفه و أفهمه أن ذلك المكان هو بيت الله و لا يمكن تنجيسه فأسلم الأعرابي و لم يُرَ بعد ذلك إلا و هو آت المسجد في أحسن ثيابه و أطهرها ، و صدق الله العظيم إذ يقول لرسوله : ﴿ ... وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ... 6 و تأثر بعض الحاضرين عند سماع القصة فاختلى بي أحدهم إلى جانب و سألني : من أين أنت : قلت من تونس : فسلم عليَّ و قال : يا أخي بالله عليك أن تحفظ نفسك و لا تتكلم مثل هذا هنا أبدا . أنصحك لوجه الله . و ازددت بغضا و حنقا على هؤلاء الذين يدعون أنهم حماة الحرمين و يعاملون ضيوف الرحمن بهذه القسوة ، و لا يقدر أحد أن يبدي رأيه أو يروي أحاديث لا تتفق و ما يروونه ، أو يعتقد غير ما يعتقدونه .
رجعت إلى بيت الصديق الجديد الذي لم أعرف اسمه و قد جاءني بالعشاء و جلس مقابلي و قبل أن نبدأ في الأكل سألني أين ذهبت ، و رويت له قصتي من أولها إلى آخرها و قلت في معرض كلامي : يا أخي أنا بصراحة بدأت أنفر من الوهابية و أميل إلى الشيعة ، فتغير وجهه و قال لي : إياك أن تتكلم مثل هذا الكلام مرة أخرى ! و غادرني و لم يأكل معي ، و انتظرته طويلا حتى غلبني النوم ، و أفقت باكرا على أذان المسجد النبوي فرأيت أن الأكل لا يزال في مكانه كما تركته و علمت بأن مضيفي لم يرجع ، و تشككت في أمره و خشيت أن يكون من المخابرات ، فنهضت مسرعا و غادرت البيت بدون رجعة و قضيت كامل اليوم في الحرم النبوي أزور و أصلي و أخرج لقضاء الحاجة و الوضوء و بعد صلاة العصر سمعت أحد الخطباء يلقي درساً وسط جماعة من المصلين ، و اتجهت و علمت من بعض الجالسين أنه قاضي المدينة ، و استمعت إليه و هو يفسر بعض آيات من الذكر الحكيم ، و بعد ما أتم ، درسه و همَّ بالخروج استوقفته و سألته قائلا : سيدي هل لك أن تعطيني مدلول الآية من قوله تعالى : ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 7 .
فمن هم أهل البيت المقصودون بهذه الآية ؟
أجابني على الفور : هم نساء النبي و قد بدأت الآية بذكرهن : ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ... 8.
قلت له : إن علماء الشيعة يقولون بأنها خاصة بعلي و فاطمة و الحسن و الحسين ، و قد اعترضت عليهم طبعا و قلت بأن بداية الآية تقول : " يا نساء النبي" ، فأجابوني لما كان الكلام عليهن جاءت الصيغة كلها بنون النسوة ، فقال تعالى : لستن ، إن اتقيتن ، فلا تخضعن ، و قلن ، و قرن في بيوتكن ، و لا تبرجن ، و أقمن الصلاة ، و آتين الزكاة ، و أطعن الله و رسوله ، و لما كان هذا المقطع من الآية خاضعا بأهل البيت تغيرت الصيغة فقال : ليذهب عنكم ، و يطهركم ، فنظر إلي رافعا نظارته و قال : إياك و هذه الأفكار المسمومة ، إن الشيعة يؤولون كلام الله على حسب أهوائهم و لهم في عليّ و ذريته آيات لا نعرفها و عندهم قرآن خاص يسمونه مصحف فاطمة ، فأنا أحذرك أن يخدعوك .
قلت : لا تخف يا سيدي فأنا على حذر و أعرف عنهم الكثير و لكني أردت أن أتحقق ، قال : من أين أنت ، قلت من تونس ، قال فما اسمك ؟ قلت : - التيجاني فضحك مفتخرا ، و قال هل تدري من هو أحمد التيجاني ؟ قلت هو شيخ الطريقة ، قال و هو عميل للاستعمار الفرنسي ، و قد تركز الاستعمار الفرنسي في الجزائر و تونس بإعانته ، و إذا زرت باريس فاذهب للمكتبة القومية و اقرأ بنفسك القاموس الفرنسي في باب " أ " فسترى أن فرنسا أعطت وسام الشرف لأحمد التيجاني الذي قدم لها خدمات لا تقاس فتعجبت من قوله و شكرته و ودعته و انصرفت .
بقيت في المدينة أسبوعا كاملا حيث صليت أربعين صلاة و زرت المزارات كلها ، و كنت دقيق الملاحظة خلال إقامتي هناك فلم أزدد من الوهابية إلا بعدا و نفورا و ارتحلت من المدينة المنورة إلى الأردن حيث التقيت أصدقاء هناك كنت تعرفت عليهم في ملتقى الحج الذي أشرت إليه سابقا .
و بقيت معهم ثلاثة أيام ، و وجدت عندهم حقدا على الشيعة أكثر مما عندنا في تونس فالروايات نفسها ، و الإشاعات ذاتها ، و ليس هناك واحد سألته عن الدليل إلا و قال بأنه يسمع عنهم و لم أجد أحدا منهم جالسَ الشيعة أو قرأ كتابا للشيعة و لا حتى التقى شيعيا في حياته .
رجعت من هناك إلى سوريا و في دمشق زرت الجامع الأموي و إلى جانبه مرقد رأس سيدنا الحسين كما زرت ضريح صلاح الدين الأيوبي و السيدة زينب و من بيروت قطعت مباشرة إلى طرابلس و دامت الرحلة أربعة أيام في البحر استرحت خلالها بدنيا و فكريا و استعرضت شريط الرحلة التي أوشكت على النهاية فإذا بي أستنتج ميلا و احتراما للشيعة و في نفس الوقت بعدا و نفورا و سخطا على الوهابية التي عرفت دسائسها و حمدت الله على ما أنعم به علي و ما أولاني من عناية و رعاية داعيا إياه سبحانه و تعالى أن يهديني إلى طريق الحق .
و رجعت إلى أرض الوطن و كلي شوق و حنين إلى أسرتي و أهلي و أصدقائي ، و وجدت الجميع بخير ، و فوجئت عند دخولي إلى منزلي بكثرة الكتب التي وصلت قبلي و عرفت مصدرها .
و لما فتحت تلك الكتب التي ملأت البيت ازددت حبا و تقديرا لأولئك . الذين لا يخلفون وعدهم و قد وجدت هنا أضعاف ما أهدي إلي هناك 9.