تقيمك هو: 5. مجموع الأصوات: 39
نشر قبل 6 سنوات
القراءات: 6656

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

حقوق الانسان في الفقه الاسلامي (1)

الحق الأول: (حرية التعبير عن الرأي الديني)

مفهوم الحق

تفترض هذه الدراسة أن حرية التعبير حق من الحقوق الكبرى للإنسان بالمعنى الفقهي والقانوني، لهذا لابد من تسريح النظر في البعد المفاهيمي لمادة حق، لأنه سيساعد على تشخيص مستوى ممارسة هذا الحق خارجياً من قبل صاحب الحق.

مفهوم الحق علمياً

لم يُوْلِ بعض الفقهاء أهمية للبحث المفاهيمي لمادة حق، كما هو ملاحظ في مطاوي كلمات السيد الخوئي، حيث صدّر كلامه بالحديث عن أقسام الحقوق ثم انتقل مباشرة للحديث عن الفارق بين الحق والملك من جهة، وبين الحق والحكم من جهة أخرى، من دون التوقف عند الحديث عن ماهية الحق1، بل صرّح بعضهم كالسيد الحائري بعدم وجود أثر عملي لهذا اللحاظ من البحث، فبالرغم من أنه تناول الجانب المفاهيمي بشيءٍ من التفصيل، إلا أنه ختم حديثه بالقول «وعلى أية حال فهذا المنحى من البحث الذي بحثناه حتى الآن وهو البحث عن تعريف الحق وإن كانت له قيمته من زاوية فقه الحقوق ولكن لا أثر عملي فقهي يترتب عليه، وإنما الأثر العملي يترتب على منحىً ثانٍ من البحث، وهو ما قد يسمّى ببحث الفرق بين الحق والحكم، وهو البحث عن الآثار المعروفة التي قد ترتّب على الحق»2.ومفاد هذا الكلام أننا لو قلنا بأن الحق يفيد الملكية لن يكون لذلك آثار فقهية عملية تختلف عن الآثار المترتبة على القول بإفادة الحق للسلطنة أو الأولوية.

لكن حتى لو سلّمنا جدلاً بعدم وجود ثمرة عملية لذلك فإنه لا يمنع من البحث فيما إذا كانت هناك ثمرة علمية.

الظاهر أن المتداول في البحث المفاهيمي الفقهي لمادة حق أخص من المفهوم اللغوي والقرآني وكذلك الروائي، والذي يبتني عليه الفعل القانوني إنما هو المفهوم الفقهي، كيف؟

ينبغي بدايةً تخصيص بحث لكل مفهوم من هذه المفاهيم، ليتضح لنا في النهاية المفهوم الذي خُصِّصَ البحث من أجله. وهذا بطبيعته سيجعل للبحث المفاهيمي في مادة حق أثراً عملياً إضافةً للأثر العلمي.

وليس من الضرورة أن يكون في ذلك إيراد على الحائري حين قال بعدم وجود أثر عملي، إذ أن الأمر هنا ربما يكون من باب اختلاف اللحاظ، فالحائري عندما قال بعدم وجود ذلك الأثر كان لحاظُه المفهومَ الفقهي بما هو، أي من باب الماهية المهملة، بينما اللحاظ هنا من باب اللابشرط المقسمي، أي علاقة المفهوم الفقهي بالمفاهيم الأخرى للمادة نفسها، باعتبار أن الفعل القانوني إنما يبتني على المفهوم الفقهي فقط دون المفاهيم الأخرى، ولا شك أن لذلك أثاراً عملية في البحث الفقهي فضلاً عن القانوني.

فهوم الحق لغوياً

فُسِّر الحق عند أهل اللغة تارة بأنه خلاف الباطل، وتارة بمعنى الوجوب والثبوت، والظاهر أن الثاني نتيجة تلقائية للأول.
فقد قال صاحب المقاييس «حقّ: الحاء والقاف أصل واحد وهو يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل»، ثم قال «ويقال حقَّ الشيء: وجب»3.

وهكذا قال المصباح «الحق خلاف الباطل»، ثم قال «وهو مصدر حقّ الشيءُ من بابي ضرب وقتل إذا وجب وثبت، ... وحققتُ الأمر أُحِقُّه إذا تيقّنته أو جعلته ثابتاً لازماً»4.

وفي لسان العرب «الحق: ضد الباطل»، وفيه أيضاً «حقّ الأمر ويحقّ حقوقاً: صار حقاً وثبت، قال الأزهري: معناه وجب يجب وجوباً، وحقّ عليه القول وأحققته أنا. وفي التنزيل:﴿ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ... 5  أي ثبت، قال الزجاج هم الجن والشياطين، وقوله تعالى﴿ ... وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ 6  أي وجبت وثبتت، وكذلك﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ ... 7  وحقه يحقه حقاً وأحقه، كلاهما أثبته وصار عنده حقاً لا يشك فيه»8.

وقد استنبط الفقيه الأصفهاني من هذه الكلمات أن الحق مفهوماً يعني شيئاً واحداً وهو الثبوت، كما هو ظاهر عبارته التالية: «وأما الحق فله في اللغة معانٍ كثيرة، والمظنون رجوعها إلى مفهوم واحد، وجعل ما عداه من معانيه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، وذلك المفهوم هو الثبوت تقريباً، فالحق بمعنى المبدء هو الثبوت، والحق بالمعنى الوصفي هو الثابت، وبهذا الاعتبار يطلق الحق عليه تعالى لثبوته بأفضل أنحاء الثبوت الذي لا يخالطه عدم أو عدمي، والكلام الصادق حق لثبوت مضمونه في الواقع»9.

وبالتالي فقول اللغويين (خلاف الباطل) أو (نقيض الباطل) يعني أن له وجوداً ثابتاً، باعتبار أن الباطل لا وجود له من رأس، أي أنه نوع من الكذب، وفي مقابله الصدق، أي الوجود الواقعي.

والثبوت المقصود هنا يعني أنه ثابت في نفسه، وقد يكون بمعنى الثبوت للغير إذا أُسند الحق إليه، فإذا قيل عن الشيء أنه حق كان بمعنى الثبوت في نفسه، وأما إذا قيل بأنه حق لفلان فهو يعني أنه ثابت له.

ولاشك أن الحق لغوياً يتضمن معنى الثبوت، لورود هذا المعنى في كلمات اللغويين، لكن الكلام هل المراد الثبوت فقط، أم هناك لحاظ آخر؟

يلاحَظ في تعريفات اللغويين المذكورة أعلاه ورود لحاظ آخر بضميمة الثبوت، وهو الوجوب في بعضها، واللزوم في بعض آخر.

فهل المراد هنا بالوجوب ما يرادف الثبوت، كما قد يظهر من عبارة لسان العرب حيث أنه عرّف الثبوت بالوجوب، قال «حقّ الأمر ويحقّ حقوقاً: صار حقاً وثبت، قال الأزهري: معناه وجب يجب وجوباً»، بل ذكر المقاييس الوجوب دون الثبوت، قال «حق الشيء: وجب».

أم أن في الوجوب لحاظاً إضافياً، كما قد يظهر من عبارة المصباح حيث أنه عطف الثبوت على الوجوب، قال «وجب وثبت»، والعطف يدل على المغايرة ولو النسبية، كما أنه ذكر حالين للحق وهما الثبوت واللزوم، قال «وحققتُ الأمر أُحِقُّه إذا تيقّنته أو جعلته ثابتاً لازماً».

ويضاف إلى ذلك أيضاً اعتبار ولحاظ آخر في تعريف الحق نص عليه اللغويون، وهو اليقين والمطابقة التامة للواقع، ففي العبارة الأخيرة للمصباح نُصَّ على اليقين «تيقّنته»، وفي المقاييس نُصَّ على الإحكام والصحة «حقّ: الحاء والقاف أصل واحد وهو يدل على إحكام الشيء وصحته».

والظاهر وجود مغايرة ولو من جهة بعض اللحاظات لا جميعها، أي ليس من الضرورة أن يكون التغاير بمعنى التباين المطلق، فيكفي أن يكون بمعنى العموم والخصوص من وجه، والظاهر أنه كذلك، وذلك أن اللغويين يعتمدون في تعريف الألفاظ وتشكيل معانيها على الإستعمالات العرفية عند قدامى العرب:

فالعرب تارة يستعملون اللفظ في معنى ومجال واحد فقط، فيُفْهَم بذلك أن معنى اللفظ هو هذا لا غير، كما هو ظاهر استعمالاتهم للفظ (صنم)، وهو الشيء الذي يُتَّخَذ للعبادة، مع بعض التفاصيل لسنا بصددها في هذا المقام، ولذا قال صاحب المقاييس «صنم: كلمة واحدة لا فرع لها»10.

وتارة يستعملونه في معانٍ ومجالات حقيقيّة متعددة، فيُفْهَم بذلك وجود اشتراك لفظي، كلفظ (عين) المستعمَل في العين الباصرة والعين النابعة وغيرهما على نحو الحقيقة11، وكلفظ (ظنَّ) المستعمَل بمعنى تيقّنَ وبمعنى شكَّ على نحو الحقيقة بحسب الظاهر12، وكلفظ (شعب) الدال على الافتراق والاجتماع13، وفيه قال الخليل الفراهيدي «من عجائب الكلام ووسع العربية أن الشّعب يكون تفرّقاً ويكون اجتماعاً»14.

وقد يستعملون اللفظ أيضاً في عدة مجالات لكن لا بمعنى الاشتراك اللفظي، وإنما بمعنى أن اللفظ يدل على مجموع ذلك في آن، والظاهر لمن له أنس بالكتب اللغوية أن غالب تعريفات اللغويين هي من هذا القبيل، ولهذا تجدهم في تعريف الألفاظ يستشهدون بأمثلة كثيرة من استعمالات العرب، بحيث يكون كل مثال يشير إلى جزئيّة من كُلِّي المعنى، كالذي نحن بصدده تماماً.

وبناء على ذلك فالذي يظهر أن لفظ الحق يُستعمَل بمعنى الوجوب، وبمعنى الثبوت أيضاً، كما يستعمل بمعنى المطابقة للواقع يقيناً. وكل واحد من هذه المعاني لا يعني الآخر وإن اتّحد معه في بعض الأجزاء، فالحق يعني المفهوم الجامع للوجوب والثبوت والمطابقة للواقع.

والوجوب هنا لا يعني الوجوب الذاتي العقلي، بحيث يكون معنى الحق: الواجب الوجود عقلاً في مقابل الممكنات العقلية، لأن الحق قد يكون واجباً وقد يكون ممكناً،وإنما يعني الوجوب العرفي، الذي يستمد الوجوب الشرعي منه معناه، فالوجوب هنا بمعنى اللزوم، ولهذا جاء في تعريف المصباح «جعلته ثابتاً لازماً»، فالحق في معناه يستبطن اللزوم، أي أن تكون الجهة التي عليها الحق ملزَمة به. فبالإضافة إلى كونه ثابتاً في نفسه، فإنه واجب على من هو عليه.

وليس هذا فحسب، بل ثمّة إضافة أخرى لمفهوم الثبوت، وذلك أن الثبوت مفهوم تشكيكي، أي يمكن أن تكون له مراتب، والثبوت في مفهوم الحق يرقى إلى أعلى المراتب، ولهذا أُخِذ في مفهومه المطابقة اليقينية للواقع، فقد ورد قيد اليقين في عبارة المصباح المتقدمة، كما ورد أيضاً قيد الإحكام والصحة في عبارة المقاييس، وكلاهما يدلان على المطابقة التامة للواقع.

من جميع ذلك يمكن لنا استنباط المعنى الجامع لمفهوم الحق لغويّاً، فهو يعني: الثبوت المطابق للواقع برتبة اليقين، والواجب على من هو عليه، أي هو ثابت في نفسه يقيناً، وملزِمٌ لمن هو عليه.

فالحق لا يعني الثبوت المجرّد فقط، وإنما يضاف إليه لحاظان، أحدهما اليقين، والثاني الإلزام للغير. فإذا أُطلِق أريد به هذا المعنى المركّب.

  • 1. مصباح الفقاهة، أبو القاسم الخوئي، ج2 ص330- 344، دار الهادي- بيروت، الطبعة الأولى 1992م.
  • 2. فقه العقود، السيد كاظم الحائري، ج1 ص125، مجمع الفكر الإسلامي- قم، الطبعة الثالثة 1428هـ.
  • 3. معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا، ج2 ص15، مكتبة الإعلام الإسلامي 1414هـ.
  • 4. نقلاً عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، العلامة المصطفوي، ج2 ص305، مركز نشر آثار العلامة المصطفوي- طهران، الطبعة الأولى 1385هـ.ش.
  • 5. القران الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 63، الصفحة: 393.
  • 6. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 71، الصفحة: 466.
  • 7. القران الكريم: سورة يس (36)، الآية: 7، الصفحة: 440.
  • 8. لسان العرب، ابن منظور، ج10 ص49، نشر أدب الحوزة- قم، محرم 1405هـ.
  • 9. حاشية كتاب المكاسب، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، ج1 ص38، الناشر: ذوي القربى، الطبعة الثانية 1427هـ.
  • 10. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص314.
  • 11. أصول الإستنباط، السيد علي نقي الحيدري، ص50، مكتبة الإمام الصادق عليه السلام-الكاظمية.
  • 12. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص462.
  • 13. المصدر نفسه، ج3 ص190.
  • 14. المصدر نفسه ص191.