الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

في البناء الحضاري‏

بناء المؤسسات ضرورة حضارية

إذا كانت هناك ميزة يتميز بها عصرنا الحديث ، فإنها ـ ولا ريب ـ ميزة ( المؤسسات‏ ) . فجميع البحوث ‏والدراسات التي تبحث في تطوير المجتمعات وتحضيرها ، لابد أن تؤدي إلى هذا المحور وهو : كيف نتجاوز عصر الفرد إلى عصر المؤسسة ، والحالة الفردية إلى الحالة الاجتماعية ؟

الحضارة هي الحضور

إن كلمة ( الحضارة ) و ( المدنية ) وما يراد منها من مصطلحات وتعابير تؤدي كلها معنى حضور الإنسان واجتماعه وتفاعله معه ، بل إننا عندما نريد أن نعرّف الإنسان تعريفاً يميزه عن سائر الأحياء ، فلا مناص لنا من‏القول بأنه كائن اجتماعي سياسي ، وقد ظهر هذا التعريف مؤخراً في مؤلفات المفكرين والعلماء .

البيان و العلم ميزة الإنسان‏

وعندما بيّن القرآن الكريم الصفة الأساسية للإنسان ، فإنه ركز على صفة البيان والعلم ، وذلك في الآية الكريمة التي كانت ‏باكورة وحي اللَّه تعالى إلى النبي ‏صلى الله عليه وآله وسلم : ﴿ ... اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 1.
وفي سورة الرحمان التي تتجلى فيها رحمة اللَّه عز وجل نقرأ قوله تعالى : ﴿ ... الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ 2، وفي سورة القلم تطالعنا الآيات الكريمة القائلة : ﴿ ... ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ 3، فلماذا كان القلم أداة العلم ، والبيان وسيلته ، ولماذا كان العلم‏ و البيان ميزة الإنسان ؟
الجواب : لأن العلم والبيان يتولان مسؤولية نقل الخبرة من إنسان إلى آخر ، ومن جيل إلى جيل ، في حين إن هذه القدرة معدومة تماماً لدى سائر الكائنات الحيّة ، ولذلك فإنها متوقفة عند حد معين من الفهم والمعرفة .
فالبيان وسيلة لنقل التجربة من إنسان إلى آخر ، السمة الأساسية له هي سمة الحضور ، فالإنسان كائن حيّ متحضّر ،اجتماعي ، مبيّن ناطق ، ولكن الناس مع ذلك يختلفون في مستويات تحضّرهم ، فهناك بعض الحضارات متقدمة ، وهناك‏حضارات متوسطة في التقدم ، في حين أن هناك حضارات بدائية متخلّفة .

مقياس التحضّر

إن القيمة التي نقيس بها الحضارة ونحكم على ضوئها بأنها متقدمة ، أو متوسطة ، أو متخلفة ، هي مدى‏( الحضور ) فيها ؛ فنحن قد نحضر عند بعضنا حضوراً مادياً بحتاً كما تجتمع أعواد الثقاب إلى بعضها في العلبة ،ولكن ترى هل هناك تفاعل بيننا في هذه الحالة ؟ الجواب بالنفي طبعاً ، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نسمّي علبة أعواد الثقاب بحضارة الثقاب ، لأن الحضور في هذه الحالة هو حضور فيزيائي صرف وليس حضوراً معنوياً .
والآن فإن من الوسائل التي يستطيع بها العلماء معرفة مدى تحضّر شعب ما هي مفردات اللغة التي يتعامل بها ، فهناك ‏بعض الشعوب البدائية لا تمتلك مفردات لغوية كثيرة ، فالجمل عندها بسيطة التركيب ، لأن أفرادها لا يتمتعون بخبرة كبيرة لكي يحتاجوا إلى نقلها إلى بعضهم البعض ، فنقل الخبرة بحاجة إلى البيان ، والبيان بحاجة إلى تطوير للفهم ، ولذلك ‏نجد أن معلوماتهم بسيطة ، وحضارتهم محدودة رغم أنهم يعيشون سوية .
إن الحضارة روح ، وتفاعل معنوي يؤدي إلى التعاون ، ونحن إذا أردنا أن نبني الحضارة الإسلامية فعلينا أن نعود إلى‏الجذور ، وإلى الفكرة الأساسية في الحضارة ، وإلى المحتوى فيها ، ونفكر في الطريقة التي نجعل بها حضورنا إلى بعضنا البعض حضوراً معنوياً فاعلاً وقادراً على صنع الواقع المتقدم ، وإيجاد الأرضية المشتركة للعمل .
إن علينا ـ نحن المسلمين ـ أن نعود إلى حضارتنا ، أي أن نجعل حضورنا عند بعضنا البعض حضوراً حيوياً فاعلاً لكي‏نصل إلى الحقيقة ، ولكننا ـ للأسف الشديد ـ ترى كل واحد منا يعيش في زنزانة نفسه ، فإذا أراد أحدنا أن يدرس أو يعمل ، فإنه يخطط لنفسه ، ويبرمج وينفذ لها فقط ، فكل تفكيرنا منصب على أنفسنا كأفراد .

حياة المؤسسات لا الأشخاص‏

إننا عاجزون عن أن نتقدم بوصة واحدة إن لم نخرج من زنزانة أنفسنا كأفراد لندخل في رحاب التجمعات ، ونعيش‏حياة المؤسسات لا حياة الأشخاص ، وأن نحذر من أن تكون قياداتنا شخصية مستندة إلى أفراد معينين فإن ذهبت ،فإن علينا أن نبنيها من جديد من ألفها إلى يائها .
وعلى سبيل المثال ؛ فإن المؤسسة المرجعية التي تمتلك تاريخاً عريقاً يمتد إلى أكثر من ألف سنة ، هي المؤسسة الشرعية الوحيدة التي تستطيع أن تنوب عن الإمام الحجة عجل اللَّه فرجه في عصر الغيبة ، ورغم ذلك فإني ـ حسب معلوماتي ـ لم أجد حتى الآن كتاباً ألف حول تجربة المؤسسة المرجعية خلال ألف عام من الخبرات والجهات ، والعطاء العلمي ‏والحضاري في مختلف الأمور .
إن السبب في ذلك أن المؤسسات لم يكن لها وجود في ذلك العصر ، ولذلك فإن التاريخ لم يكتب ، ولم تنتقل الخبرات‏والتجارب إلا من خلال الألسن والأفواه . . . وفي مثل هذه الحالة تسود جميع مجالات حياتنا . فنحن نعيش أفراداً ولم ‏نستطع بعد أن نعي ضرورة ظهور المؤسسات في حياتنا .
إن الإسلام عندما قال لنا : ﴿ ... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ... 4فإنه لم يأمرنا أن نرفع الأذى عن‏طريق المسلمين فحسب ، بل إن اللَّه تعالى أعطانا بذلك الأستراتيجية العامة في حياتنا ؛ أي أن حركتنا لابد أن تكون‏حركة تعاونية ، وفكرنا يجب أن يكون فكر التشاور وتبادل الآراء والخبرات كما يقول تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ... 5، كما أن خططنا يجب أن تكون خططاً مشتركة ، وأن تسود حالة التعاون حياتنا .

مجتمع الجمع والحضارة

والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو : كيف نحوّل مجتمعنا من مجتمع الآحاد إلى مجتمع الجمع والحضارة ؟
للإجابة على هذا السؤال المهم هنا أفكار كثيرة تتزاحم عليّ لبيانها ، ولكنّي أريد أن أخصص حديثي للتطرّق إلى جانب‏واحد ، وهو أننا نمتلك مؤسسات اجتماعية غير فاعلة لابد أن نبعث فيها الروح والحيوية والنشاط لكي تصبح بذلك ‏مؤسسات فاعلة . ونحن في هذا المجال بحاجة إلى مؤسسات جديدة تستطيع أن تجاري العصر الذي نعيشه ، ومن أجل‏تحقيق هذا الهدف علينا أن نقوم بوظيفتين ؛ الأولى هي بعث الروح في المؤسسات القائمة ، والثانية بناء مؤسسات جديدة حسب مقتضيات العصر .

الأسرة هي المؤسسة الأولى‏

ومن أولى وأهم المؤسسات التي يجب أن نعمل على إحيائها ، وبعث الروح فيها هي مؤسسة ( الأسرة ) . فللأسف الشديد فإن التفاعل والحضور غير قائمين في أسرنا ، فهناك الكثير من الحواجز والاختلافات بين أفراد الأسرة الواحدة ؛ فالصراحة ، والتعاون ، والروح الجماعية المشتركة . . . كلها صفات تفتقر إليها الغالبية العظمى من أسرنا ، وهذه‏حالات سلبية يجب أن نبادر إلى معالجتها .
فمن الظواهر المشهودة في هذا المجال هي أن الأبناء يعملون ـ وبمجرد وفاة أبيهم ـ على هدم الشركة التي تعب الأب‏وبذل الجهود المضنية من أجل إنشائها ، في حين أنهم في الحقيقة يجمعهم مصير مشترك ، وحياة واحدة . . وهذه الظاهرة إن دلّت على شي‏ء ، فإنما تدل على أن الروح الجماعية مفقودة تماماً في أسرنا .
إننا ـ كمسلمين ـ مكلّفون بإعادة الروح إلى أسرنا ، لكي تعود الروح إلى المؤسسات والكيانات الأخرى في المجتمع .

مؤسسة المسجد

ومن المؤسسات الاجتماعية الأخرى التي يجب أن نصبّ اهتمامنا عليها هي مؤسسة ( المسجد ) . فالتجمع‏الذي يحضر في مسجد من المساجد ينبغي أن يكون لمجيئهم فائدة ، وأن يعرف كل الواحد منهم السبب الذي جاء من‏أجله إلى المسجد ، وأن يتعرّف على روّاد المسجد ، وينشئ علاقات اجتماعية معهم ، ويسعى من أجل أن يشترك مع‏الآخرين في تأسيس صندوق مشترك للتعاون ، والقيام بالأنشطة الاجتماعية والسياسية .
إن المسجد هو ـ بعد الأسرة ـ اللبنة الحضارية الأولى في الأمة الإسلامية ، فلابد من الاعتناء به ؛ فهو ليس محلاً لأداء العبادات فحسب ، بل هو مكان من الممكن أن تمارس فيه الكثير من الأنشطة في مختلف مجالات الحياة .
وعلى هذا ؛ فلابد من أن نعيد الروح إلى مؤسسة المسجد ، فإن كانت لدينا بعض المشاكل فلا بأس من أن نطرحها في‏المسجد مع الآخرين أو مع إمام هذا المسجد ، لكي يتعاون الجميع من أجل حلّها كما كان يحدث ذلك في عصر الرسول‏ صلى الله عليه وآله وسلم ، فكثيراً ما كان عقد الزواج ـ مثلاً ـ يتمّ في المسجد ، وقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال نستنتج منها أن النبي ‏صلى الله عليه وآله وسلم كان يحل مع أصحابه الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والجهادية في المسجد .

مؤسسة الحيّ‏

المؤسسة الاجتماعية الثالثة التي ينبغي الاهتمام بها هي مؤسسة ( الحىّ‏ ) ، فالإسلام يأمرنا بأن نهتم بجيراننا ليكوّن الواحد منا هو وجيرانه مؤسسة اجتماعية فاعلة ونشطة ، كأن تقام الاجتماعات والجلسات الدورية بين سكان‏الحيّ الواحد ، أو أن يكون لهم تنظيم بلدي لإدارة شؤون محلّتهم لكي لا يضطرّوا إلى ترقّب القوانين الإدارية حتى تحل‏مشاكلهم ، فمن المفروض أن نكون نحن المبادرين إلى القيام بهذه الأعمال ، فعلى أهل الحارة الواحدة أن يجتمعوا فيما بينهم‏ليحدّدوا احتياجات حارتهم ، مثل بناء مسجد ، أو تأسيس مستوصف ، أو صندوق للقرض الحسن . .
إن هذا هو المعنى الحقيقي للجيرة التي يربطها مع بعضها عمل مشترك ، ومصير واحد ، وهناك مؤسسات أخرى أمر الإسلام بإقامتها ، وقد ذكرت تلك الأمثلة البسيطة من أجل بيان أن المؤسسات التي أمر الإسلام بها ، وبرمج التعاون من‏خلالها يجب أن نبعث فيها روحها الأصيلة ؛ وعلى سبيل المثال ، فإن اللَّه تبارك وتعالى قد أمرنا بالتعاون فقال : ﴿ ... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... 4، فقد بيّن لنا هنا قنوات‏التعاون مثل الأسرة ، والجيران ، والمسجد .

مؤسسات حسب الظروف‏

أما بالنسبة إلى المؤسسات الحضارية ؛ فإننا لا نستطيع أن نكتفي بالمؤسسات الموجودة ، بل لابد من أن نشكل مؤسسات‏حسب الظروف المتطوّرة ، فنحن ـ مثلاً ـ بحاجة إلى حزب سياسي ، وإلى مؤسسة تهتم بأمر البيئة . . وعلى سبيل المثال ‏فإذا كان يوجد في منطقتنا حمّام يسهم في تلويث البيئة من خلال الدخان المتصاعد منه ، فلنفكر حتى نعثر على الطريقة التي نتخلّص بها من هذا الدخان ، وإذا كانت هناك أرض متروكة قد تحوّلت إلى مكان لتجتمع النفايات ومرتع خصب ‏للجراثيم فعلينا أن نحثّ مالكها لكي يضع لها الحلّ المناسب ، ذلك لأننا جميعاً مشتركون في الهواء الذي نتنفس منه ، وليس لأي واحد منا الحق في أن يفسد هذا الهواء ويلوّثه ، كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة : ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ... 6. فهذه الآية توحي إلينا بضرورة المحافظة على البيئة ، كما أن هناك‏ قاعدة شرعية تقول : ( لا ضرر و لا ضرار ) .
إن هذه الأنشطة من السهل علينا القيام بها حسب مقتضيات الظروف المحيطة بنا ، وحسب احتياجاتنا ، وذلك من‏خلال التغلّب على الحواجز والعقبات النفسية التي تمنعنا من أداء تلك الأعمال من مثل الفرديات ، والأنانيات ، والتفكير في المصالح الشخصية 7 .