مجموع الأصوات: 75
نشر قبل 4 سنوات
القراءات: 5366

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

في معنى العقلانية (1ـ2)

العقلانية هي فعل العقل أو فعالية العقل، والعقل هو الذي يولد العقلانية، ولا تولد العقلانية قطعاً من غير العقل. وتشير العقلانية إلى عنصر الحركة في العقل، وتكون ناظرة إلى العقل في تجلياته وأفعاله الظاهرية والخارجية، وبالتالي فإن البحث عن العقلانية ليس بحثاً عن ذات العقل وماهيته، وإنما هو بحث عن فعله وتحققه، وكيف يظهر ويعرف عند الآخرين، وكيف يمارس دوره وفعاليته.
والعقل الذي يولد العقلانية، فإن هذا التوليد لا يحدث آلياً وطبيعياً، ومن دون مقدمات أو مؤثرات فكرية وثقافية ومعرفية، وتفسير ذلك أن جميع الناس لهم عقول، ولكن هل جميع الناس عقلانيون، ولو كانوا كذلك لما ظهرت بينهم كل هذه الحروب والصراعات المدمرة والمتوحشة، والتي يصفها العقلاء بالجنون، ولما حصلت مثل هذه الكوارث والمجاعات التي تهتك بالبشر، وكأنهم ليسوا من البشر، ولما هبطت قيمة الإنسان إلى هذا المستوى الذي تسلب فيه وتسحق كرامته وحقوقه... ولما، ولما التي لا تنتهي.
ولا يراد من هذا القول، سلب صفة العقلانية عن الإنسان، فكل إنسان له القابلية والقدرة على اكتساب العقلانية وبأعلى دراجاتها لوجود العقل عنده، كما لا يمكن تجريد الإنسان كلياً من سمة العقلانية لوجود العقل عنده أيضاً.
وبالتالي فليس هناك إنسان بلا عقلانية بالمطلق، ولكن الناس يختلفون ويتفاوتون فيها قوة وضعفاً، بمعنى أن الناس متساوون في العقل من جهة الطبيعة، ولكنهم متفاوتون في العقلانية من جهة الفعلية، والمقصود أنهم متفاوتون في درجة تنمية عقولهم وإعمالها وتجليتها.
والعقل كما قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت في مفتتح كتابه الشهير (مقالة عن المنهج)، هو أحسن الأشياء توزعاً بالتساوي بين الناس، إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحضهم من شيء غيره.
فلا يمكن أن يكون الإنسان بهذا العقل الذي أودعه الله فيه، وبهذا العمر الطويل نسبياً، ولا يكون لديه نصيب من العقلانية، لأنه حينئذ سيفقد إنسانيته ولن يكون إنساناً، وهذا يعني أن العقلانية هي صفة نسبية بين الناس لا يتجردون منها كلياً، ولا يتساوون بها أيضاً.
وليست هذه هي العقلانية التي نقصدها في هذا المقام، والتي نقصدها هي العقلانية العالمة، الواعية بذاتها، المدركة لوجودها، المتبصرة لنورها، المتجلية بضيائها.
وتصوير أن العقلانية تشير إلى عنصر الحركة في العقل، نقصد بذلك المعنى الفلسفي لمفهوم الحركة، الذي يعني انتقال الشيء من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج، وعلى هذا الأساس فإن العقلانية لا تولد من العقل في دفعة واحدة، وبصورة فورية، وإنما في دفعات وبطريقة متدرجة.
وبفعل هذه الحركة تظل العقلانية في حالة صيرورة لا تعرف التوقف والثبات، وتتسم بالتغير والتحول الدائم والمتصل، ولا تسير في خط تصاعدي ثابت، أو خط تراجعي ثابت، لأن الإنسان لا يتوقف عن العودة إلى عقله، ولأن العقل يظل ينبه الإنسان دائماً بالعودة إليه، ولأنه أيضاً معرض لكثير من العوامل التي تحجب عنه نور العقل، وهذا ما يدركه الإنسان في داخله، ويتنبه إليه دائماً1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 11 سبتمبر 2008م، العدد 15356.