مجموع الأصوات: 11
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 1450

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

كربلاء نهاية الظالمين

حسب الرؤية الاسلامية تنتهي المجتمعات البشرية، وتفنى الحضارات الانسانية بسبب انحرافها عن الحق واختيارها طريق الباطل، ولكن الحق ليس شيئاً واحداً، فكل سنة الهية، وكل فطرة خلقها الله حق، وكل قانون طبيعي سنة، وكل ما أجراه الله على الكون حق، فاذا انحرف الانسان عن القانون الالهي دمر حياته بيده عاجلًا أو آجلًا.

قد يكون الانحراف عن طريق الحق حسب المصطلحات الحديثة انحرافاً عسكرياً، فبدلًا من أن تكون السلطة السياسية الحاكمة على الناس منبعثة عن إرادتهم الحرة والواعية، وعن سنن الحق الحاكمة في الكون ومن رسالات السماء، بدلًا من أن تكون كذلك تكون السلطة محكومة بأيد عسكرية لا تعرف إلا منطق القوة والارهاب.

وقد يكون الانحراف انحرافاً اقتصادياً متجهاً الى الاستغلال والاستثمار، وتكون السلطة السياسية آنئذٍ سلطة المستثمرين والمستغلين، سواء منهم الاقطاعيون أو الرأسماليون، أو ما أشبه، وقد تنحرف السلطة السياسية عن الحق لتتجه الى قيام العنصرية المقيتة.

كما قد تنحرف السلطة السياسية باتجاه آخر هو الاتجاه الاقتصادي الذي يدعوا الى الترف والتبذير، أو قد تنحرف السلطة السياسية باتجاه آخر نحو تحكيم سلطة المفسدين في الارض الذي يضلون الناس عبر الكهنة والاحبار المنحرفين وهذه الاخيرة، هي السلطة السياسية المعروفة في علم السياسة اليوم بالسلطة [التيوقراطية] والتي تختلف جذرياً عن القانون الاسلامي في السياسة شكلًا ومضموناً، إن هذه الانحراف بشتى أنواعها تؤدي بالمجتمعات الى الانهيار وقد أدت فعلًا هذه الانحرافات بالحضارات الماضية الى الفناء والدمار حسبما يقص علينا كتاب الله المجيد. القرآن الكريم يحدثنا عن أقوام عاد وفرعون وثمود وأصحاب الايكة وقوم نوح، ولك واحدة من هذه الحضارات البائدة يضرب الله بها مثلًا نموذجياً لنوع محدد من الانحراف عن الحق، ففرعون وقومه المتسلطون على شعب مصر كانوا منحرفين عنصرياً. وجاء في كتاب الله قوله تعالى:

«ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم انه كان من المفسدين» (4/ القصص).

وكانت طائفة بني اسرائيل، حيث كان كل نسل بني اسرائيل يهان في مصر سواء كان موالياً للسلطة أو مخالفاً لها، صادقاً كان أم كاذباً، صالحاً أو فاسداً!

فالفكر القبطي كان يعتقد ان الدم القبطي أفضل من الدم الاسرائيلي، وهذا لم يكن جديداً ولا بدعاً في ذلك العصر ولا في هذا العصر، إذ اننا لا نزال نجد انحرافات عنصرية قائمة في الولايات المتحدة الامريكية، وصنيعتها في جنوب افريقا، وربيبتها اسرائيل، بل في كثير من دول العالم، حتى وان سميت هذه الانحرافات العنصرية باسم أو بآخر، وقانون المشيخة والامارة الموروثة هو نوع من العنصرية المقيتة.

أما قوم نوح فقد كانوا طبقتين، ولم يكونوا عنصرين بالمصطلح المفهوم للكلمة، وإنما كانوا طبقتين يعتقدون بأن [الأراذل] اذا تبعوا اماماً وقائداً فلابد أن لا يتبعه [الأكابر] وحسب تعبير المستكبرون قالوا:

أنتبعك؟

أنؤمن بك!

«قد اتبعك الأرذلون».

أي أن الارذلين اذا اتبعوا أحداً فلايحق لنا أن نتبعه، لان هذا نبيهم، ان هذا أيضاً كان في عصر النبي (ص) حيث كان القريشيون يعتقدون بأن أتباع المستضعفين والاغنياء معاً، هكذا كانت الفوارق حادة في المجتمع المكي.

ولم يكونوا يصدقون بأن شخصاً كأبي ذر ينتمي الى قبيلة بدوية في الصحراء هي قبيلة غفار يمكن أي يتساوى مع أبي سفيان، الى درجة ان شخصاً يعتبر عبد مستخدم يشترى ويباع كبلال الحبشي يجب أن يتساوى مع كبار قومهم.

الانحراف الاقتصادي .. كيف وما نتيجته؟

هناك انحراف آخر قد يحدث في المجتمع هو انحراف قوم عاد .. الذي كان انحرافهم حسبما توحي اليه بعض الآيات الكريمة انحرافاً عسكرياً، الآية تقول: ﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ 1.

وأما قوم شعيب أصحاب الايكة فقد انحرفوا انحرافاً اقتصادياً حيث ان نبيهم شعيب (ع) كان يأمرهم أن يعدلوا في المكيال والميزان.

وأما ثمود فقد انحرفوا انحرافاً اقتصادياً عن طريق الاسراف، وكان نبيهم صالح (ع) يأمرهم دائماً بأن يتجنبوا الاسراف والترف.

وكما ان قوم لوط كان انحرافهم أيضاً من هذا النوع فقد أسرفوا وكانوا مترفين، ولكن ذلك وجههم الى الشذوذ الجنسي الذي كان عنواناً لسائر انحرافاتهم في الحياة، وفي هذا المجال القرآن الحكيم يضرب مثلًا، وما وراء هذا المثل أمثال أخرى لا نحرافاتهم الاسرافية الترفية التي خصهم اليها أحساسهم بالبطر والغنى وحب المال وحب الشهوات، أما الانحرافات التي كانت من نوع اتباع الكهنة والاحبار كانت في اتباع قوم موسى (ع) الذين عبدوا رهبانهم وأحبارهم من دون الله تعالى.

الانحراف يبدأ بسيطاً .. يبدأ في غفلة عن وعي الناس، كما يبدأ اثر مادة التخدير في جسم الانسان، أو كما يبدأ النوم.

فهل تستطيع تحديد لحظة نومك؟

كلا، ان النوم يتسلل اليك في الظلام حتى يستولي عليك كاملًا فتنام، وكذلك الانحراف عند الانسان الفرد أو الانسان المجتمع. الفرد لا ينحرف بوعيه ولا بارادته ولا مع كامل تصميمه وقراره، وإنما الشيطان يستدرج الانسان استدراجاً فيخدعه ويغره.

الانحراف يبدأ في لحظة اللاوعي

ان عمر بن سعد لم يصبح عمر بن سعد مرة واحدة ولا شمر أصبح هكذا .. في البدء يبدأ الانسان بانحرافات بسيطة، السارق لا يبدأ سرقته منذ البدء بسرقة الاشياء الكبيرة ولا باحتراف هذه المهنة الخبيثة، وإنما يبدأ بسرقة شيء بسيط، وتلك تكون البداية التي قد لا يحببها لنفسه، وإنما يبدأ مثلًا بأن يقترض من أحد مالًا ثم ينسى دائنه ذلك المال، فيتناسى هو الآخر ولا يدفع له المال.

يبخس الناس في المكيال والميزان، ويغشهم، وهكذا شيئاً فشيئاً تراه يصبح ساراقاً محترفاً، وغشاشاً مرناً، ويتطور ليصبح نهاباً كالسارق الذي يسرق بقوة مثل الانظمة الفاسدة، وكذلك الغشاش .. وهكذا يتطور الانسان السارق بهذه المراحل.

يقال ان سارقاً حكم عليه بالاعدام بعد عمليات الاستيلاء المستمرة في الزمان القديم وفي اللقاء الأخير بينه وبين أمه قال لها لا تبكي فانك أنت التي تقتلينني، قالت، كيف؟

أنا أبكي عليك .. أنا أشفق عليك. قال: نعم ولكن تذكرين في طفولتي انني سرقت البيض من بيت الجيران فشجعتيني على ذلك ان ذلك دفعني لان أسرق المزيد حتى أقوم بعمليات الاستيلاء على بيوت الناس، وكذلك أقوم بالارهاب، ويحكم عليّ بالاعدام .. فأنت التي تقتلينني وليست السلطة.

ان هذا طبيعة الانسان. وان عمرو بن العاص حينما جاءته رسالة من معاوية تدعوه الى الالتحاق به في البدء رفض الالتحاق، واستشار ابنيه في ذلك أحدهما قال: يا أبتاه لا تلتحق .. يكفينا ما بنا، والآخر شجعه على الالتحاق طمعاً في الدنيا وفي ملك مصر فقبل نصيحة الثاني فقال له عمر بكل وضوح .. أنت تريدني للدنيا وأخوك يريدني للآخرة .. لكن، لماذا قبل نصيحة الابن الثاني؟

لان خلفيات القبول كانت موجودة عنده ولان الانحرافات كانت قد بدأت صغيرة في فكره ثم تنامت حتى أصبح صاحبها في أسفل الاسفلين.

وهكذا الانحراف في الامة .. لا يبدأ مرة واحدة. أعمال يزيد في كربلاء .. إعمال يزيد في المدينة .. وفي مكة، وارهاب بني أمية وقتلهم للابرياء لم يكن من أعمال يزيد إنما كان بسبب انحرافات معاوية، معاوية هو الذي مهد الطريق ليزيد .. هو الذي استخلف يزيداً .. وهو الذي سلط هذا الشاب المغرور، الفاجر، على رقاب المسلمين.

ومعاوية بدوره لم يكن انحرافه في ذاته .. انحرافاً أولياً، بقدر ما كان هذا الانحراف بادئاً من تسلط الأمويين على رقاب المسلمين في أيام عثمان.

الحزب الاموي الذي كان يخطط للسيطرة على البلاد الاسلامية منذ البدء تحت إمرة (أبو سفيان) الذي جاء الى الامام علي (ع) بعد وفاة النبي (ص) وقال له: لأملأنها لك خيلًا ورجلًا.

لماذا تجلس في البيت؟ .. أخرج وأنا معك.

الامام قال: اني أرفض أخرج من بيتي، لانه علم مقاصده وعرف ما يريده، وهكذا كان الحزب يعمل لاستلام السلطة، فلم يكن كلام النبي (ص) مجرد تنبأ- بالرغم من إعتقادنا بأن النبي (ص) عن طريق الله سبحانه وتعالى- حينما قال: (اذا رأيتم معاوية هذا على منبر فأقتلوه وما أظنكم تفعلون ذلك) لم يكن مجرد تنبأ، وإنما كانت كل المؤشرات تدل على ذلك.

المؤامرات كانت محبوكة .. حين جمع الحزب الاموي نفسه ولملم خيوطه وربط قياداته بقواعده منذ أيام النبي (ص) فالانحراف في الامة الاسلامية لم يبدأ في وادي كربلاء ولا حتى بالانقلاب العسكري الذي قاده ابن زياد ضد مسلم بن عقيل في الكوفة.

وهكذا في كل أمة، الانحرافت الاقتصادية، والانحرافات الثقافية، والانحرافات الخلقية، وغيرها من الانحرافات لا تبدأ مرة واحدة وبصورة مفاجئة. بل انها تبدأ تدريجياً، والمشكلة هي ان الناس دائماً ينظرون الى نهاية الانحراف. فحينما يموت المريض يلمسون بانه كان مريضاً، وكأنه فجأة بدأت عوارض المرض على جسمه وفي نفس ذلك اليوم ما ت المريض، والناس لا تشعر مثل ذلك الطبيب حينما ينظر الى شخص مصاب بسرطان الدم والعياذ بالله والشخص في أتم الصحة خارجياً انه يمشي ..

ويذهب .. ويأكل، وهو لايشعر بأن جسمه يحمل مرضاً يؤدي به الى الهلاك، ولكنه صدفة يذهب ليحلل دمه، والمحلل يعطيه تقريراً مغلقاً الى الطبيب المختص، ويقول له راجع ذلك الطبيب. ومن ثم يقوم الطبيب بدوره بفتح التقرير وهو يقول: نعم خلايا سرطانية في الدم، واذا الطبيب وجه الكلام الى هذا الانسان الذي يحمل المرض السرطاني: انك سوف تموت بعد سنة، طبيعياً انه لا يقبل بل يكذّب تقرير الطبيب، لانه لا يشعر بأن جسمه يحمل مرض السرطان في الدم ومادام يحس في نفسه الاندفاع والحيوية، ويستطيع أن يقوم بأعماله ببساطة.

فلماذا يموت؟

كذلك الامة، حينما تبدأ الخلايا السرطانية بالانتشار فيها فذلك اليوم هو يوم موت هذه الامة، ولكن الامة لا تعشر بذلك، والمصلحون وحدهم هم الذين يشعرون ويعرفون ان الانحراف قد بدأ مع فارق بين الفرد المصاب بالخلايا السرطانية والامة وهوان الانحرافات في الفرد لا ينفعها العلاج.

ولكن الامة اذا وعيت واستوعبت نصيحة الناصيحين، استطاعت عندئذ أن تقضي على الانحراف، وكما نرى ان الانسان الذي يسير نحو النوم لا يفهم انه بدأ ينام، أو الانسان الذي يضرب أبرة التخدير فانه ينحدر الى حضيض التخدير بلا حس.

كذلك الامة حينما يبدأ سيرها في الانحراف، يقل وعيها، وتقل قدرتها على معرفة الانحراف.

ان الانسان الذي لم يذنب شيئاً، يعرف ان الذنب خطير، فيتهيب من الذنب لانه يعرف مدى قذارته، ولكن اذا أذنب مرة .. مرتين .. ثلاث، فان روحيته تتبدل ويفقد ضميره الذي لابد أن يحاسبه على الذنب.

وفي مثل هذا الوضع .. ماذا تحتاج الامة؟

الامة التي يبدأ الانحراف فيها تحتاج الى صيحة، تحتاج الى تفجير في ضميرها .. وهذا ما فعله الامام الحسين (ع) في كربلاء، قام بعملية تفجير هائلة القوى لا يمكن قياسها حتى بالقنابل النووية لضخامتها واتساع أمواجها وامتدادها عبر الزمان والمكان، فقد قام بهز ضمير الامة .. لكي يهدم البناء الانحرافي داخل المجتمع وداخل النفس البشرية آنئذ في كل وقت.

دروس من كربلاء

انحراف [بنوا أمية] لم يكن فقط في السلطة .. ان انحراف السلطة دليل انحراف الامة .. ودليل انحراف المجتمع، وحينها يكون الظالم والمظلوم مشتركين في الجريمة، الظالم لظلمه، والمظلوم لسكوته على الظلم.

من الذي قتل ناقة صالح؟

من الذي عقرها؟

رجل واحد فقط هو الذي عقر الناقة وقتلها، ولكن الله عمهم بالبلاء حين سكتوا عنه وعمّوه بالرضى.

من الذي قتل الامام الحسين (ع)؟

رجل واحد ..؟

ولكن كل من حضر أرض كربلاء، بل كل من رضى بهذه الغفلة الشنيعة،- نحن نلعنه-.

«ولعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به».

أليس كذلك؟

لماذا؟

لان السكوت عن الظلم لا يقل جريمة عن الظلم ذاته والانحراف كان قد بدأ في الامة الاسلامية.

أولا: بسكوتهم عن الظلم.

ثانياً: باستدراج النعم لهم ان صح التعبير فإنه قد «ملئت بطونكم حراماً».

هذه الكلمة التي قالها حبيب بن مظاهر، حينما نصح القوم ولم يسمعوا نصيحته، وكذلك كان الامام الحسين عليه الصلاة والسلام يكررها أيضاً.

ماذا تعني هذه الكلمة؟

تعني ان الانحراف يؤدي بالانسان الى قتل ابن بنت نبيه، وهولا يبالي، لان أكل الحرام يورث قسوة القلب.

وما هي قسوة القلب.

قسوة القلب تلك التي كانت عند شمر وعند عمر بن سعد، وحرملة .. وقسوة القلب هي ما نراه عند الجلادين الذين يقتلون الشباب المؤمن في سجون العراق، وفي سجون البحرين، وفي سجون المنطقة، يقتلونهم تحت التعذيب.

لماذا هذا صار قاسي القلب؟

ومتى صار؟

حينما قبل ان يصبح أجيراً عند السلطان الظالم، فهو في تلك اللحظة أصبح قاسي القلب. وفي تلك اللحظة قام بالجريمة.

الامة الاسلامية في عصر الامام الحسين (ع) بدأ انحرافها اقتصادياً وكانت تحتاج الى صيحة قوية، والصيحة جاءت في كربلاء من فم الامام الحسين (ع)، بل من نحر الامام الحسين (ع).

قد يسكت الفم ويتفجر دماً ولساناً ناطقاً، كما كان في كربلاء التي جاءت تقول للناس: انكم انحرفتم مرتين، مرة حين ارتبطتم بالنظام الاقتصادي، تأكلون الحرام «من أجل عشرة» إذ قال بن زياد ان كل من يذهب الى قتال الامام الحسين (ع) يضاف الى عطاءه عشرة ولم يقل ماذا يعني بالعشرة، فزعم الناس عشرة دناينير، فجاءوا الى قتل الامام الحسين (ع)، ثم لما عادوا قالوا، أين العشرة؟، فأعطاهم عشر تمرات وقال: هذه عشرة.

ومن هنا يبدأ انحراف الأمة، وانحراف النفس التي تبيع ذاتها بدينار، بل بمليون دينار، هذه النفس لا تساوي فلساً واحداً.

لانه حينما ينزل الانسان لمستوى بيع نفسه فلا فرق بين أن يبيع نفسه بدينار أو بمليون دينار. وشمر بن ذي الجوشن مثال على ذلك إذ قال لابن زياد:

املأ ركابي فضة أو ذهبا

لقد قتلت الرجل المحجبا

قتلت خير الناس أماً وأبا

فقيل له: لم قتلته، اذا كان خير الناس أماً وأبا؟

فأجابه قائلًا: قتلته لعطائك.

قال له: لا عطاء لك، اذهب!!

هذا معنى الانحراف الاقتصادي أكل الحرام، والتعبير بالاكل الحرام أفضل من أن أقول الانحراف الاقتصادي، لان الانحراف الاقتصادي يمكن أن يفسره بشيء مختلف، والحرام يعني أكل ما لا تجوزه الشريعة الاسلامية

كيف أصبحنا مستعبدين؟

اننا نعرف ان الربا حرام .. وان النظام الرأسمالي البنكي حرام، وكذلك ان العدوان، وأكل أموال الناس بالباطل حرام. فلو رفضنا التعامل مع هذه الانظمة الرأسمالية الفاسدة، ورفضنا التعاون مع الحكومات الظالمة اقتصادياً لسقطت هذه الحكومات، ولما استعبدنا، ولما انتهكت حرماتنا، لما سحقت كرامتنا، لانه منذ البدء لم نفهم معنى الانحراف، وماذا نعني أكل الحرام؟

نعم، بنت الصحابي أبي ذر الصغيرة هي التي عرفت ذلك أحسن منا، حينما جاءت اليها السلطات الفاسدة بعسل، وهي كانت جائعة لم تطعم شيئاً منذ ثلاثة أيام فذاقت العسل قليلًا، فاذا بأبيها يدخل عليها.

ماذا تفعلين؟

أكلت قليلًا من هذا العسل؟

أو تعرفين من الذي أرسل هذا؟

قالت: لا

فقال لها ان معاوية هو الذي أرسله.

حينها ذهبت الى طرف ووضعت اصبعها في حلقها وأفرغت العسل، وأخذت تنشد تلك الابيات المعروفة:

أبالعسل المصفى يابن هند

نبيع عليك إيماناً ودينا

فقد عرفت ان أكل العسل الحرام بداية الانحراف ومن ثم بيع النفس بدينار، وعرفت الطفلة ذلك بفطرتها البريئة وببصيرتها الدينية، وبتربية أبيها لها، لكن أهل الكوفة لم يعرفوا هذا الواقع.

وحينما تجد الامام الحسين (ع) يكرر وأصحابه قصة ثمود في كربلاء، والامام الحسين (ع) يشبه ابنه الرضيع بناقة صالح لابد أن نعرف ان هناك علاقة بين حركة الامام الحسين (ع) وبين حركة صالح (ع)، لانها نفس الثورة ونفس الحركة.

الترف .. ذلك الابتلاء

أذكر لكم آيات من سورة الشعراء مرة أخرى وفي قصة ثمود الذين انحرفوا اقتصادياً، فانحرفوا سياسياً، وأدى بهم ذلك الانحراف الى قتل الناقة، وبالتالي الى عذاب الله الشديد. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ 2.

الى هنا والرسالة واحدة. ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 3.

للانحراف الاقتصادي أنواع، نوع عند ثمود، ونوع آخر عند قوم لوط، وكلا النوعين يتشعبان من نقطة واحدة هي الانحراف النظري للمال، ولمهمة الثروة والاسراف فيها، فقوم لوط أسرفوا في نعم الله، وشذوا عن الطريق وابتلوا بالشذوذ الجنسي وبأنواع أخرى من الشذوذ، بينما قوم صالح توالت عليهم النعم، فأصبحت مادة للفساد، ووصلت الى حالة الطبقية المقيتة، وأما المجتمع الاسلامي فمنذ عصر عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وطلحة، ومروان بن الحكم، ومعاوية بن أبي سفيان، هذه المجموعة كلها من رؤساء الحزب الاموي الذي ذكرت لكم قد أحاك المؤامرة منذ أيام الرسول (ص) ولم يقل الرسول عبثاً: «اذا رأيتم معاوية هذا على منبري فاقتلوه ولن تقتلوه».

هذا الحلف هو أثر على المسلمين في فتوحاتهم الاسلامية للبلاد المختلفة أثراً فاحشاً، حتى ان احدهم كما تعرفون في التاريخ حينما مات خلف ذهباً كثيراً حتى أن ذهبه قسموه بالفأس.

والآخر لم يمكن احصاء ضياعه وأمواله، هذا الانحراف في قمة المجتمع الاسلامي.

ولكن النظام الاقتصادي الفاسد يسعى لربط أموال الناس ومقدراتهم بعجلة الاقتصاد المنحرف، وبذلك يستطيع أن يعبأ ثلاثين ألف انسان مقابل عشرة، ولم يسألوا عن هذه العشرة.

ماذا تعني؟

يفكرون أنها دنانير فاذا هي عشر تمرات!

ان هذا النظام متشبع بالفساد الاجتماعي، وبحاجة الى صيحة قوية، بحاجة الى تلك الصيحة التي توقط النائم، لتهز ضمير المجتمع، كتلك الصيحة التي أطلقها الامام الحسين (ع)

كربلاء حياة لكل العصور

مأساة كربلاء كانت مأساة عميقة وواسعة وفي كل بعد، ومن هنا نلاحظ انه حينما يتحدث الخطباء عن أي شيء عن التاريخ، عن الماضي، عن الحاضر .. فبإستطاعة المتحدث أن يتحدث عن أي شيئ ثم كربلاء لها علاقة بكل شيء في الحياة.

واذا ما أردنا أن نتحدث عن المرأة .. أو الرجل .. أو الطفل .. أو الصغير .. أو الكبير .. أو الوفاء .. أو البطولة .. أو الشجاعة .. أو الارهاب .. أو عن أي صفة حسنة، وعن أي صفة رذيلة.

الصفات الحسنة تجدها عند أصحاب الامام الحسين (ع) في أروع صورها. فالوفاء يتمثل في أبي الفضل العباس خاصة في تلك اللحظات المريرة قبيل الشهادة، حينما رمى الماء على الماء ولم يشرب حتى جرعة واحدة بعدما تذكر عطش الامام الحسين (ع). رغم ان هذا ليس حقاً من حقوق الامام الحسين (ع) ولكن هنا تتوضح بجلاء رفرفة الروح في سماء الرفعة والوفاء، هذا مشهد من أرض كربلاء ملهم للانسانية، وهذا أيضاً درس من دروس كربلاء.

وفاء القاسم (ع) كان باستطاعة القاسم أن ينسحب عن الميدان، ومن المعركة بأسرها، فالقاسم لم يكن قد بلغ الحلم والقتال ساقط عنه، ولكن ترى ان روحه روح زكية.

وروح زينب الرفيعة تشبثت بالسماء وقدمت مع أخيها الى كربلاء، من أجل أن يبقى دين الله تعالى، ولكن أي شجاعة تلك، انها الشجاعة في طريق الحق .. شجاعة تجللها روح التضحية من أجل الله تعالى. وسمو النفس وهكذا شجاعة سائرالاصحاب (ع).

من هنا كانت كربلاء صيحة في ضمير الانسان الذي سوف يتدرج في الانحراف فجاءت هذه الصيحة وهزت الامة الاسلامية، ولا أستطيع أن أتخيل لو لم تكن واقعة عاشوراء موجودة في الساحة الاسلامية في المجتمع الاسلامي.

هل كان هناك مسلم؟

وهل كان هناك مجتمع اسلامي؟

انني شخصياً لا أستطيع أن أتصور اسلاماً كان يبقى من دون هذه المأساة التي صنعها الامام الحسين عليه الصلاة والسلام بدمه الزكي، وبدماء أصحابه وبسبي نساءه 4.