تقيمك هو: 4. مجموع الأصوات: 2
نشر قبل يومين
القراءات: 79

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ما هو ضعف نظریّة صاحب المنار(رشید رضا) فی الاستعانة؟

إنّ مؤلّف المنار تصوّر أنّ حدّ التوحید هو: أن نستعین بقدرتنا و نتعاون فیما بیننا- فی الدرجة الأُولى‏- ثم نفوّض بقیة الأمر إلى اللَّه القادر على‏ کل شی‏ء، و نطلب منه- لا من سواه - و یقول فی ذلک:
«یجب علینا أن نقوم بما فی استطاعتنا من ذلک و نبذل لإتقان أعمالنا کل ما نستطیع من حول و قوّة، و أن نتعاون و یساعد بعضنا بعضاً، و نفوّض الأمر فیما وراء کسبنا إلى القادر على‏ کل شی‏ء و نلجأ الیه وحده، و نطلب المعونة للعمل و الموصل لثمرته منه سبحانه دون سواه»1.
إذ صحیح أنّنا یجب أن نستفید من قدرتنا، أو من العوامل الطبیعیة المادیة و لکن یجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأیّة أصالة و غنى‏ و استقلال، و إلّا خرجنا عن حدود التوحید.
فإذا اعتقد أحد بأنّ هناک- مضافاً إلى العوامل و القوى‏ الطبیعیة- سلسلة من العلل غیر الطبیعیة التی تکون جمیعها من عباد اللَّه الأبرار الذین یمکنهم تقدیم العون 2 لمن استعان بهم تحت شروط خاصة و بإذن اللَّه و إجازته دون أن یکون لهم أیّ استقلال لا فی وجودهم و لا فی أثرهم، فأنّ هذا الفرد لو استعان بهذه القوى‏ غیر الطبیعیة مع الاعتقاد المذکور- لا تکون استعانته عملًا صحیحاً فحسب بل تکون- بنحو من الإنحاء- استعانة باللَّه ذاته کما لا یکون بین هذین النوعین من الاستعانة (الاستعانة بالعوامل الطبیعیة و الاستعانة بعباد اللَّه الأبرار) أیّ فرق مطلقاً.
فإذا کانت الاستعانة بالعباد الصالحین- على‏ النحو المذکور- شرکاً لزم أن تکون الاستعانة فی صورتها الأُولى‏ هی أیضاً معدودة فی دائرة الشرک، و التفریق بین (الاستعانة بالعوامل الطبیعیة) و (الاستعانة بغیرها) إذا کانتا على‏ وزان واحد و على‏ نحو الاستمداد من قدرة اللَّه و بإذنه و مشیئته، بکونها موافقة للتوحید فی أُولى‏ الصورتین، و مخالفة له فی ثانیة الصورتین، لا وجه له.
من هذا البیان اتّضح هدف صنفین من الآیات وردا فی مسألة الاستعانة:
الصنف الأوّل: یحصر الاستعانة باللَّه فقط و یعتبره الناصر و المعین الوحید دون سواه.
و الصنف الثانی: یدعونا إلى سلسله من الأُمور المعیّنة غیر اللَّه و یعتبرها ناصرة و معینة، إلى جانب اللَّه.
أقول: من البیان السابق اتّضح وجه الجمع بین هذین النوعین من الآیات و تبیّن أنّه لا تعارض بین الصنفین مطلقاً، إلّا أنّ فریقاً نجدهم یتمسّکون بالصنف الأوّل من الآیات فیخطئون أیّ نوع من الاستعانة بغیر اللَّه، ثم یضطرون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الإنسانیة والأسباب المادیة) من عموم تلک الآیات الحاصرة للاستعانة باللَّه بنحو التخصیص بمعنى‏ أنّهم یقولون: إنّ الاستعانة لا تجوز إلّا باللَّه إلّا فی الموارد التی أذن اللَّه بها، و أجاز أن یستعان فیها بغیره، فتکون الاستعانة بالقدرة الإنسانیة و العوامل الطبیعیة- مع أنّها استعانة بغیر اللَّه- جائزة و مشروعة على‏ وجه التخصیص، و هذا ممّا لا یرتضیه الموحّد.
فی حین أنّ هدف الآیات هو غیر هذا تماماً، فأنّ مجموع الآیات یدعو إلى أمر واحد و هو: عدم الاستعانة بغیر اللَّه، و أنّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى‏ یجب أن تکون بنحو لا یتنافى‏ مع حصر الاستعانة باللَّه بل تکون بحیث تعدّ استعانة باللَّه لا استعانة بغیره.
و بتعبیر آخر: إنّ الآیات ترید أن تقول: بأنّ المعین والناصر الوحید والذی یستمد منه کل معین و ناصر، قدرته و تأثیره، لیس إلّا اللَّه سبحانه، ولکنّه- مع ذلک - قیم هذا الکون على‏ سلسلة من الأسباب و العلل التی تعمل بقدرته و أمره، و على‏ استمداد الفرع من الأصل، ولذلک تکون الاستعانة بها کالاستعانة باللَّه، ذلک لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.
وإلیک فیما یلی إشارة إلى بعض الآیات من الصنفین:
﴿ ... وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 3
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ 4
﴿ ... وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 5
هذه الآیات نماذج من الصنف الأوّل و إلیک فیما یأتی نماذج من الصنف الآخر الذی یدعونا إلى الاستعانة بغیر اللَّه من العوامل و الأسباب:
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ... 6
﴿ ... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ... 7
﴿ ... مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ... 8
﴿ ... وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ... 9
و مفتاح حلّ التعارض بین هذین الصنفین من الآیات هو ما ذکرناه وملخّصه:

إنّ فی الکون مؤثراً تاماً، و مستقلًا واحداً غیر معتمد على‏ غیره لا فی وجوده و لا فی فعله و هو اللَّه سبحانه.
و أمّا العوامل الأُخر فجمیعها مفتقرة- فی وجودها و فعلها- إلیه و هی تؤدی ما تؤدی بإذنه و مشیئته و قدرته، و لو لم تعط تلک العوامل ما أعطیت من القدرة و لم تجر مشیئته على‏ الاستمداد منها لما کانت لها أیة قدرة على‏ شی‏ء.
فالمعین الحقیقی فی کلّ المراحل- على‏ هذا النحو تماماً- هو اللَّه فلا تصحُّ الاستعانة بأحد باعتباره معیناً مستقلًا.
لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة باللَّه وحده، و لکن هذا لا یمنع بتاتاً من الاستعانة بغیر اللَّه باعتباره غیر مستقل
(أی باعتباره معیناً بالاعتماد على‏ القدرة الإلهیة)، و معلوم أنّ استعانة- کهذه- لا تنافی حصر الاستعانة باللَّه سبحانه لسببین:
أوّلًا: لأنّ الاستعانة المخصوصة باللَّه هی غیر الاستعانة بالعوامل الأُخرى‏، فالاستعانة المخصوصة باللَّه هی: ما تکون باعتقاد أنّه قادر على‏ إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على‏ غیرها، فی حین أنّ الاستعانة بغیر اللَّه سبحانه إنّما هی على‏ نحو آخر، أی‏مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على‏ الإعانة مستنداً على‏ القدرة الإلهیة، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فاذا کانت الاستعانة- على‏ النحو الأوّل- خاصة باللَّه تعالى‏ فإنّ ذلک لا یدل على‏ أنّ الاستعانة بصورتها الثانیة مخصوصة به أیضاً.
ثانیاً: إنّ استعانة- کهذه- غیر منفکّة عن الاستعانة باللَّه، بل هی عین الاستعانة به تعالى‏، و لیس فی نظر الموحّد (الذی یرى‏ أنّ الکون کلّه من فعل اللَّه و مستند إلیه) مناص من هذا.
و ممّا سبق یتبیّن لک أیّها القارئ الکریم ما فی کلام ابن تیمیة من الإشکال إذ یقول:
«أمّا من أقرّ بما ثبت بالکتاب و السنّة و الإجماع من شفاعته صلى الله علیه و آله و سلم و التوسّل به و نحو ذلک،
و لکن قال: لایدعى‏ إلّا اللَّه و أنّ الأُمور التی لا یقدر علیها إلّا اللَّه فلا تطلب إلّا منه، مثل غفران الذنوب و هدایة القلوب و إنزال المطر و إنبات النبات و نحو ذلک، فهذا مصیب فی ذلک بل هذا ممّا لا نزاع فیه بین المسلمین أیضاً کما قال تعالى‏:﴿ ... وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ... 10
و قال:﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ... 11
و کما قال تعالى‏:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... 12
و کما قال تعالى‏:﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... 3
و قال:﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ... 13 14.
فقد غفل ابن تیمیة عن أنّ بعض هذه الأُمور یمکن طلبها من غیر اللَّه، مع الاعتقاد بعدم استقلال هذا الغیر فی تحقیقها، و هذا لاینافی طلبها من اللَّه مع الاعتقاد باستقلاله و غناه عمّن سواه فی تحقیقها.

نعم، لا تقع هذه الاستعانة مفیدة إلّا إذا ثبتت قدرة غیره سبحانه على‏ إنجاز الطلب و لکنّه خارج عن محط بحثنا، فإنّ البحث مرکّز على‏ کون هذا العمل شرکاً أو لا، و أما کون المستعان قادراً فالبحث عنه خارج عن هدفنا.
و ربّما یتوهّم أنّها لاتنفع أیضاً إلّا إذا ثبتت مأذونیة الغیر من قبله سبحانه فی الإعانة، کما یتوقف على‏ ذلک جواز أصل طلب العون، و إن کان غیر شرک.
و لکنه مدفوع، بإنّ إعطاء القدرة دلیل على‏ المأذونیة فی أعمالها فی الجملة، إذ لا معنى‏ لأن یعطیه اللَّه القدرة و یمنعه عن الأعمال مطلقاً، أو یعطیه القدرة و یمنع الغیر عن طلب اعمالها.
و یکفی فی الجواز، کون الأصل فی فعل العباد، الجواز و الإباحة، دون الحظر و المنع إلّا أن ینطبق على‏ العمل أحد العناوین المحرمة فی الشرع.
و أخیراً نذکّر القارئ الکریم بأنّ مؤلف المنار حیث إنّه لم یتصوّر للاستعانة بالأرواح إلّا صورة واحدة، لذلک اعتبرها ملازمة للشرک فقال:
«ومن هنا تعلمون: أنّ الذین یستعینون بأصحاب الأضرحة و القبور على‏ قضاء حوائجهم و تیسیر أُمورهم و شفاء أمراضهم و نماء حرثهم وزرعهم، و هلاک أعدائهم و غیر ذلک من المصالح، هم عن صراط التوحید ناکبون، و عن ذکر اللَّه معرضون»1.
و لا یخفى‏ عدم صّحته إذ الاستعانة بغیر اللَّه (کالاستعانة بالعوامل الطبیعیة) على‏ نوعین:
أحدهما: عین التوحید، و الآخر: موجب الشرک، أحدهما: مذکّر باللَّه، و الآخر: مبعد عن اللَّه.
إنّ حد التوحید و الشرک لیس هو کون الأسباب ظاهریة أو غیر ظاهریة، إنّما هو الاستقلال و عدم الاستقلال، هو الغنى‏ والفقر، هو الأصالة و عدم الاصالة.
إنّ الاستعانة بالعوامل غیر المستقلّة المستندة إلى اللَّه، التی لاتعمل و لا تؤثر إلّا بإذنه تعالى‏ لیس فقط غیر موجبة للغفلة عن اللَّه، بل هو خیر موجّه، و مذکّر باللَّه. إذ معناها: انقطاع کلّ الأسباب و انتهاء کل العلل إلیه.
و مع هذا کیف یقول صاحب المنار: «أُولئک عن ذکر اللَّه معرضون» و لو کان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسیان اللَّه والغفلة عنه للزم أن تکون الاستعانة بالأسباب المادیة الطبیعیة هی أیضاً موجبة للغفلة عنه.
على‏ أنّ الأعجب من ذلک هو کلام شیخ الأزهر الشیخ محمود شلتوت الذی نقل- فی هذا المجال- نص کلمات عبده دون زیادة و نقصان، و ختم المسألة بذلک، و أخذ بظاهر الحصر فی ﴿ ... وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 4 غافلًا عن حقیقة الآیة و عن الآیات الأُخرى‏ المتعرّضة لمسألة الاستعانة 15 16 17