الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

موقف أهل بيت النبوة من مصادرة الحريات

 

مصادرة السلطة للحريات

قد تصادر السلطة القائمة في ‏المجتمع حقوق الإنسان و حرياته أو تنتقص منها ، أو لا تمكِّن الإنسان من ممارستها ، و لا تقر بالمبرر الأساسي لوجودها ، فهل يجوز لهذا الإنسان أو الجماعة أن تلجأ إلى العنف و تقاتل السلطة لإجبارها على الإلتزام بالعقد و العهد ، و تمكين الإنسان من ممارسة حقوقه و حرياته ، خاصة السياسية منها ؟
إن العنف ليس هو الوسيلة الأولى المناسبة لإجبار السلطة الغاشمة على الإعتراف بحقوق الإنسان و حرياته و تمكينه من ممارستها ، بل يتوجب على الإنسان أن يلجأ أولاً إلى كافة الوسائل المشروعة السائدة في المجتمع أو التي ألفها البشر ، لأن مفاسد العنف و قتال السلطة و الخروج عليها أكثر بسبعين مرة من فوائده ، فهو آخر ما ينبغي أن يفكر فيه الإنسان السويّ العاقل لحماية حقوقه و تحقيقها .
ثم إن السلطة لها الحق من حيث الظاهر باستعمال القوة ، أما الفرد فلا حق ظاهر له باستعمال القوة ، إلا بتخويل قانوني أو في حالة الدفاع عن النفس .
ثم إنه ليس كل أفراد المجتمع بحرقة المظلوم ، و لا بدرجة وعيه و إحساسه بالظلم الذي لحق به ، فبعضهم لايعرفون الحقيقة أو الأسباب الموجبة لهذه المواجهة ، و ربما كان لديهم حسن الظن بالسلطة فيدفعهم ذلك إلى الوقوف إلى جانبها و الانحياز لها باعتبارها الطرف الأقوى و صاحبة الحق الظاهر ، و بعضهم يقف على الحياد مما يجعل الذين يؤيدون الخروج على السلطة قلة نادرة .
و هذا الوضع يقدم الى السلطة الفرصة المناسبة لسحق الجماعة الذين يلجؤون إلى مواجهتها ، و تصورهم على أنهم شياطين مردة خرجوا على المجتمع و شقوا عصا الطاعة و فرقوا الجماعة ، فتصدت لهم السلطة الساهرة على أمن المجتمع ، فقمعت فتنتهم و سحقت أعداء المجتمع . . إلى آخر خزعبلات السلطة الغاشمة !
فالحل الأمثل المظلومين اللجوء إلى كافة الوسائل المشروعة حسب القانون السائد في المجتمع الذي تحكمه السلطة الغاشمة و استنفادها كلها ، فإذا لم تنفع هذه الوسائل كلها ، فلابد أولاً من وحدة المظلومين فبدون وحدتهم تبعثر كل جهودهم ، فإذا توصلوا إلى صيغة للوحدة اقتسموا الأدوار و توجهوا نحو أفراد المجتمع قاطبة ، و استقطبوهم لقضيتهم بالوسائل السلمية ، و أقنعوهم بأن السلطة ماضية في غيها تاركة للشريعة السائدة في المجتمع و أعرافه ، فلا خلاص من شرها إلا بالوقوف العام ضدها و تغييرها . فإذا اقتنعت هذه الأكثرية و نجحت بإظهار سخطها على السلطة تسقط السلطة بصورة آلية ، و تحولت إلى شجرة بلا جذور اجتثت من فوق الأرض ، و حلت محلها سلطة أخرى بالضرورة ، تستقيم إلى حين ثم تنحرف و تمارس الظلم و الإعتداء و تتكرر المأساة ، و تتكرر عملية استنجاد الأفراد بأكثرية المجتمع .
و لا بد من الإشارة إلى أن تحصين المجتمع العقائدي ضد الإنحراف و تبصير كافة أفراده بحقوقهم و واجباتهم ، و ضرورة استعدادهم الدائم لمحاسبة السلطة على كل عمل من أعمالها ، و تعميق الوعي السياسي فيهم ، و تعميق روح التضامن بينهم ، يشكل ضمانه فعلية لحماية الإنسان و حماية حقوقه و حرياته .

1. لا خوف من السلطة التي يقودها المعصوم (عليه السلام)

ليس وارداً على الإطلاق أن تقوم الولاية أو القيادة أو الإمارة أو السلطة التي اختارها الله تعالى و أعلنها رسوله ( صلى الله عليه و آله ) و تعاقدت معها الأمة و بايعتها ، أن تعتدي على الإنسان أو تصادرة حقوقه و حرياته أو تنتقص منها أو تتجاهلها ، لأن الولي و الإمام قد اختاره الله و أعدّه و هيأه و أهله ، و عصمه عن الوقوع في الخطأ و الزلل و مخالفة الشريعة .
و لكن مساعديه ليسوا معصومين عن الخطأ و مخالفة الشريعة ، فإذا وقع الإعتداء على حقوق الإنسان و مخالفة أحكام الشريعة من قبل أحد من مساعديه ، فبإمكان المعتدى عليه أن يصل إلى الإمام ، لأنه لا حواجز بين أي فرد و بين الإمام ، و يحيطه علماً بما جرى ، عندئذٍ يتصدى الإمام للقضية و يطبق على الواقعة الحكم الشرعي الذي وضعه الله ، فينصف المظلوم و يؤدي له حقه و يعاقب الظالم ، و هكذا يزول الخلل بأقل التكاليف و أقصر الطرق . و بالتالي فإن الإنسان في ظل النظام الإسلامي الإلهي آمن و لا خوف على حقوقه و حرياته من السلطة ، بل على العكس فإن السلطة هي التي تخاف من الإعتداء على الإنسان و حقوقه و حرياته .
لكن الخوف الحقيقي يأتي من السلطة التي تستولي بالقوة و التغلب و القهر ، و تعطل من أحكام الشريعة الإلهية ما لا يتفق مع هواها ، و تضرب بعرض الحائط كافة الأوامر الإلهية و الترتيبات النبوية المتعلقة بالولاية و القيادة ، و تضع من اختراعها ترتيبات بديلة ثم تقدمها للأمة مع الشريعة الإسلامية الإلهية « فتربط الهر مع الجمل » و تسوق الإثنين معاً !! فمن يقبل الشريعة الإلهية و يرفض الترتيبات البديلة يعتبر شاقاً لعصا الطاعة و مفارقاً للجماعة و دمه مباح حتى في الأشهر الحرم ، لأنه باغ على السلطة الشرعية و مجتمعها كله !! و ليس هذا فحسب لأن الخليفة الغاصب يدعي أنه يحكم بما أنزله الله و يتسلح بالقشرة الظاهرية الخارجية للإسلام ، و يتسلق بدعواه فيدعي أنه خليفة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و القائم مقامه ، و أن له الحق بالتمتع بكافة الصلاحيات و الإختصاصات الهائلة التي أعطيت للرسول كسلطة ! مع أن هذه الصلاحيات أعطاها الله للرسول لأنه نبي معصوم عن الخطأ و الزلل ، و لأنه معد إلهياً و الأقدر و الأفهم و الأعلم و الأفضل للقيادة .
فعندما يستولي الخليفة و يصر على أن يتمتع بكافة صلاحيات النبي بدعوى أنه خليفته ، مع أنه ليس معصوماً و لا مؤهلاً إلهياً ، فالنتيجة المحتومة هي الإستبداد و الطغيان و مخالفة الشريعة ، و اختلال كل شئ في المجتمع !
و عند ما يقع مثل هذا الإعتداء الخطير على الإنسان و حقوقه و حرياته ، فواجب أئمة أهل بيت النبوة و جماعة الله أو حزبه أن يقفوا في وجه الغاصب و يعارضوا ، سواء أخذت هذه المعارضة طابع السلم أو طابع العنف و القوة . و إن من أمنيات الخليفة الغاصب و مساعديه أن يلجأ أئمة أهل بيت النبوة و وجوه جماعة الله أو حزبه إلى العنف و القوة ، حتى يجعلوا لهم سبيلاً عليهم فيبطشوا بهم و يقتلوهم بغير رحمة فيستريحوا منهم ، لأن وجودهم خطر على سلطتهم لأنهم أصحاب الحق الشرعي !
ثم إن أئمة أهل بيت النبوة قد آتاهم الله علمي النبوة و الكتاب ، و بقاؤهم في المجتمع يشكل قنبلة موقوتة لا يدري متى تنفجر ، فإذا نجح إمام أهل البيت مع الأيام بكشف حقيقة الغاصب و مساعديه ، و توعية الناس و تبصيرهم بالحقائق الشرعية فسوف تنقلب أكثرية المجتمع ضد المنقلبين !
ثم إن وجود الإمام و وجوه حزب الله يحد من حرية الغاصب الذي يزعم أنه خليفة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و لكنه من الناحية الواقعية غر جاهل لا يعرف إلا القليل من أحكام الشريعة ، فعندما يخرج على أحكامها و مبادئها العامة سينبري له إمام أهل البيت و وجوه حزب الله ، و يقولون له سلمياً أنه قد خرج على أحكام الشريعة فيضطر للعدول و سيكتشف الناس أن الخليفة الغاصب جاهل لا يعرف أحكام الشريعة !
و من ناحية أخرى ، فإن إمام أهل بيت النبوة و وجوه جماعة حزب الله يشكلون ضمانة و حماية للدين من انتحال المبطلين و تحريف الضالين و الشهادة للحق ، فإذا مكنوا الغاصب الطاغية من قتلهم ، فسيبقى الدين بدون حماية و دون شهود .
لهذه الأسباب مجتمعة و منفردة ، قرر أئمة أهل بيت النبوة و تبعاً لهم وجوه حزب الله الذين لم يصل عدد المستعدين منهم للتضحية الى أربعين رجلاً ، عدم الدخول في مواجهة مسلحة مع السلطة الغاصبة ، فقرروا أن يصبروا و يصابروا و يضاعفوا جهدهم و جهادهم لكشف الحقائق الشرعية و تعرية السلطة الغاصبة و كشف حقيقتها للمسلمين مع الأجيال ، و يحفظوا وحدة الجماعة المسلمة .
لقد غصبوا حق الإمام علي بالخلافة و الإمامة من بعد النبي ( صلى الله عليه و آله ) و هددوه بالقتل إن لم يبايع الغاصب ، و شرعوا بحرق بيته على من فيه و فيه فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و فيه الحسن و الحسين أبناء رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و معهم بعض كبار المهاجرين و الأنصار !
و ضربوا فاطمة بنت رسول الله على بطنها و هي حامل فأسقطت جنينها محسن !
و حرموا ورثة النبي الشرعيين من أن يأخذوا شيئاً من تركة النبي ( صلى الله عليه و آله ) بحجة أن الخليفة الغاصب أولى بميراث النبي من ورثته الشرعيين !
و جردوا أهل بيت النبوة من كافة المنح و العطايا التي أعطاها لهم رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) حال حياته و صادروها ! و حرموا أهل بيت النبوة من حقهم بالخمس الثابت بآية محكمة ! و جعلوا أهل بيت النبوة و هم أصحاب الولاية العامة على كافة المسلمين عالة على الخليفة الغاصب ، يقدم لهم المأكل فقط كما يقدمه للمتسولين !! 1 .
إن كل عمل من الأعمال و المحرمات التي ارتكبتها السلطة الغاصبة ، يثير الجبال و يدفعهم دفعاً إلى العنف و إلى المواجهة المسلحة مع هذه السلطة الغاصبة ، لكن أئمة أهل بيت النبوة أشد رسوخاً من الجبال ، و هم يعلمون نوايا السلطة الغاصبة و تحينها الفرصة لقتلهم و إطفاء نور الله نهائياً ، بحيث لا يبقى من الدين إلا القشرة الخارجية اللازمة لبقاء الملك و توسعه !
لذلك فوَّتوا فرصة قتلهم على السلطة الغاصبة ، و حاول الإمام بكل ما أوتي من قوة أن يستنهض المجتمع و يطلب منه النصرة ، فحمل زوجته ابنة رسول الله و ابنيه حفيدي رسول الله و ذريته الوحيدة الباقية ، و طاف بهم على بيوت الأنصار بيتاً بيتاً يطالبنهم بالنصرة ، و كلما دخلوا بيتاً كان أهله يقولون لهم: يا ابنة رسول الله قد سبقت بيعتنا لهذا الرجل و لو أن ابن عمك « الإمام علي » سبق الينا ما عدلنا به !! و هي تجيبهم : ( و هل ترك أبي في غدير خم لأحد عذراً ) ؟!
إذاً فلا نفع للإمام و لا لأهل بيت النبوة من مجتمع انقلب على عقبيه ، و القلة القليلة المؤمنة التي بقيت مع أهل بيت النبوة غير قادرة على فعل شئ !!
قال الإمام علي شاكياً مرارة واقعة: « اللهم إني أستعديك على قريش و من أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، و أكفأوا إنائي ، و أجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري ، و قالوا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تُمنعه ، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً ! فنظرت فإذا ليس رافد و لا مساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الفنية ، فأغضيت على القذى ، و جرعت ريقي على الشجا ، و صبرت في كظم الغيظ على أمرِّ من العلقم ، و آلم للقلب من وخز الشفار » 2 .
و اشتكى الإمام مرة قائلاً: « إنه لما قبض الله نبيه ، و كنا نحن أهله و ورثته و أولياؤه من دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، و لا يطمع في حقنا طامع ، إذا انبرى لنا قومنا ، فغصبونا سلطان نبينا ، فصار الأمر لغيرنا ، و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف ، و يتعذر علينا الذليل ، فبكت الأعين منا لذلك ، و خشيت الصدور ، و جزعت النفوس ، و أيم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، و أن يعود الكفر و يبور الدين ، لكنا على غير ما كنا عليه » 3 .
و أوضح الأمر في شكوى ثالثة قائلاً : « إن الله لما قبض نبيه ، و استأثرت علينا قريش بالأمر ، و دفعنا عن حق نحن أحق به من كافة الناس ، فرأيت أن الصبر على ذلك أولى من تفريق كلمة المسلمين و سفك دمائهم ، و الناس حديثوا عهد بالإسلام ، و الدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن و يعكسه أقل خلاف » 4 .
لهذه الأسباب كلها رأى الإمام علي أن المواجهة المسلحة مع السلطة الغاصبة محسومة سلفاً لصالح السلطة ، و أن الأفضل له و لأهل بيت النبوة و لحزب الله أو جماعته هو الصبر و المصابرة ، و الدخول مع السلطة الغاصبة في مواجهات سلمية لا تشق عصا الطاعة و لا تفرق الجماعة ، و أن الحكمة تقتضي أنه يفوتوا على السلطة رغبتها الجامحة بقتلهم و أن يجعلوا مواجهاتهم سلمية ، و ينشطوا في كشف الحقائق و بيان ما جرى و يجري في المجتمع من السلطة الغاصبة !! ففي يوم طال أو قصر ستكشف الأمة الحقيقة ، ثم يرد الذين ظلموا إلى الله فيحاسبهم حساباً عسيراً .

2 . قرار أهل البيت بالمواجهة السلمية للسلطة الغاصبة

استعمل أهل بيت النبوة المواجهات السلمية التي دحضت حجة السلطة الغاصبة ، و عرَّت مواقفها التي لا تستند على أي أساس شرعي ، فكانت هذه المواجهات منابر لتعليم الأمة و إطلاعها على الحقائق ، و كشف السلطة على حقيقتها كسلطة غاصبة غير مؤهلة للقيادة ، و جاهلة بأحكام الشريعة الإسلامية و متجاهلة عمداً لها !
و كان لهذه المواجهات الأثر الأعظم في إثبات شرعية موقف أهل البيت (عليهم السلام) و تحويل حزب الله أو جماعته إلى حزب خاص بأهل بيت النبوة ، أطلقوا عليه إسم « الشيعة » أو شيعة أهل البيت ، و كان لها الأثر الكبير في اتساع حزب الله أو جماعة الله في الأمة ، فبعد أن كانوا بعد موت النبي ( صلى الله عليه و آله ) لا يتجاوزن العشرات عملياً ، أصبحوا اليوم بفضل الله و نعمته يتجاوزون عشرات الملايين ، بالرغم من أن دولة الخلافة التاريخية قد سخرت كافة مواردها لإطفاء نور الأئمة ( عليهم السلام ) و طمس فضائلهم و ما خصهم الله به من فريضة الولاية العامة ، و أنزلت بهم ما لم ينزله فرعون الطاغية في بني ‏اسرائيل ! فقد قطعت أيديهم و أرجلهم ، و سملت عيونهم ، و أحرقت بيوتهم ، و قتلتهم على الظن و الإحتمال ، و صلبتهم على أعواد المشانق ، و محت أسماؤهم من ديوان العطاء ، ولم تقبل لهم شهادة ، و جردتهم من كافة حقوقهم و حرياتهم السياسية و المدنية !! لأنهم متهمون بجرم عظيم هو محبة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ، ولي عهد النبي ، و ابن عمه ، و زوج ابنته ، و والد سبطيه الحسن و الحسين !!
و من المفارقات المضحكة المبكية معاً أنهم كانوا يقتلون آل محمد ، و يصلون عليهم بنفس الوقت ، لأن صلاتهم بغير الصلاة على محمد و آل محمد باطلة و غير مقبولة !! يقتلونهم و هم يشهدون أنهم أهل بيت النبوة ، و الذين أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً ، و أوصى بهم الرسول ( صلى الله عليه و آله ) كأحد ثقلي الإسلام !
بهذا المناخ الرهيب خاض أهل بيت النبوة مواجهاتهم السلمية مع السلطة الغاصبة ، و كثمرة لجهادهم نشأ التشيع و نما على اعتبار أن الشيعة هم حزب الله و جماعته .

3. مواجهة سلمية لعلي في بلاط الخليفة و حضور أركان دولته

« اقتيد الإمام علي بالقوة » و أتي به إلى أبي بكر و هو يقول : أنا عبد الله و أخو رسوله ، فقيل له : بايع أبا بكر ، فقال لهم الإمام : أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و تأخذونه منا أهل البيت غصباً !! ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة و سلموا اليكم الأمارة . نحن أولى برسول الله حياً و ميتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، و إلا فبوؤوا بالظلم و أنتم تعلمون !!!
قال له عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع ! فأجابه الإمام: « إحلب حلباً لك شطره و اشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً ! ثم التفت الإمام إلى الحاضرين و قال : الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره و قصر بيته إلى دوركم و قصور بيوتكم ، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت ، و نحن أحق بهذا الأمر مادام فينا القارئ لكتاب الله و الفقيه في دين الله العالم بسنن رسول الله المضطلع بأمر الرعية ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنه فينا فلا تتبعوا الهوى فتعدوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعداً » 5 .
و أرسل الخليفة المتغلب مولاه قنفذ إلى الإمام و قال له : قل لعلي إن خليفة رسول الله يدعوك . فأجابه الإمام علي : ( لسريعٌ ما كذبتم على رسول الله ) ! فأرسل الخليفة مولاه قنفذ ثانية و طلب منه أن يبلغ علياً بأن خليفة رسول الله يدعوه ليبايع ، فبلغ قنفذ الرسالة لعلي ، فرفع الإمام علي صوته فقال : « سبحان الله لقد ادعى ما ليس له » 6 .
و أمام إصرار الإمام علي على عدم مبايعة الخليفة المتغلب ، تحرك نائبه عمر بن الخطاب و معه جماعة ، و أخرجوا الإمام علي بالقوة غير عابئين ببكاء فاطمة الزهراء ، و جاءوا به إلى الخليفة فقالوا له بايع ! فقال علي : إن لم أفعل فماذا ؟ قالوا إذاً والله تضرب عنقك ! فقال علي : إذاً تقتلون عبد الله و أخا رسول الله !! و توجه الى قبر الرسول يصيح و يبكي و ينادي : ﴿ ... ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ... 7 8 .
صحيح أن الإمام علي هو أقوى و أبرع من حمل السيف و أشجع أهل زمانه ، و الكتائب لاتستطيع الصمود أمام صولاته ، و لكن في غياب الناصر لاقدرة له على مواجهة دولة فعلية ، فلو أنه واجههم لقتلوه و لأذاعوا فيما بعد أنه قد مات على الشرك كما أذاعوا ذلك عن أبيه ، و لما كان لمقتله أثر يذكر ! فكانت هذه المواجهة و أمثالها أبعد أشد تأثيراً من ألف مواجهة مسلحة ، خاصة و أن مواجهات الإمام كانت تجري مع الخليفة المتغلب أمام أركان دولته و وجوه المجتمع ، و يقيناً أنها كانت تترك تأثيراً هائلاً في نفوسهم ، و تخلق لديهم الرغبة بتغيير مواقفهم من السلطة الغاصبة .
لذلك فإن نتيجة المواجهة السلمية كانت لصالح الحق و صالح الإمام علي (عليه السلام) ، و ليست لصالح السلطة الغاصبة التي كانت تتحين الفرص و تترقب أن يستعمل الإمام القوة و العنف ، حتى تنقض عليه و تقتله و تستريح من معارضته .
قال الإمام شرف الدين العاملي : «لم يكن أمام الإمام علي إلا الإحتفاظ بحقه في الخلافة ، و الإجتماع على من عدل عنه بها ، على وجه لا تشق به للمسلمين عصا ، و لا تقع بينهم فتنة ينتهزها عدوهم ، فقعد في بيته حتى أخرجوه كرهاً بدون قتال ، و لو أسرع اليهم ما تمت له حجة و لا سطع لشيعته برهان ، لكن جمع بين حفظ الدين و الإحتفاظ بحقه من خلافة المسلمين . . . و حين رأى أن حفظ الإسلام ورد عادية أعدائه موقوفاً في تلك الأيام على الموادعة و المسالمة ، شق بنفسه طريق الموادعة و آثر مسالمة القائمين في الأمر احتفاظاً بالأمة و احتياطاً على الملة و ضناً بالدين و إيثاراً للآجلة على العاجلة ، و قياماً بالواجب شرعاً و عقلاً من تقديم الأهم على المهم » 9 .

4. مواجهة سلمية لابنة رسول الله فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

تفقد الخليفة الغالب قوماً تخلفوا عن بيعته فوجدهم عند علي ، فبعث اليهم جماعة مسلحة فنادتهم و هم في دار علي ، فأبوا أن يخرجوا ، عندئذٍ دعا نائبه عمر بن الخطاب بنار ثم صاح بأعلى صوته : و الذي نفسي بيده لتخرجن أو لأحرقن الدار على من فيها ! فقيل له : إن فيها فاطمة الزهراء بنت رسول الله ! فقال و إن يكن !
عندئذٍ خرج الذين في بيت علي حتى لايحرق عمر بيت بنت الرسول و قد شرع فعلاً في إحراقه ! و وقفت فاطمة داخل دارها و قالت لعمر و صحبه : ( لاعهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم ! تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا ، و قطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقنا ) !
و عندما أخذ عمر بن الخطاب جماعة من جنده ليخرجوا علياً بالقوة نادت فاطمة بأعلى صوتها : ( يا أبتي يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب و ابن أبي قحافة ) ! و بعد أن نفذوا ما أرادوا حضر الخليفة المتغلب و معه عمر ليعتذر لفاطمة عن شروعهما بحرق بيتها ، فدخلا البيت الذي كان الدخان يتصاعد منه فقالت لهما فاطمة: « أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفانه و تفعلان به ؟ قالا : نعم ! فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول ( رضا فاطمة من رضاي ، و سخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، و من أرضى فاطمة فقد أرضاني ، و من أسخط فاطمة فقط أسخطني ؟ فقالا : نعم . عندئذ قالت الزهراء : فإني أشهد الله و ملائكته أنكما اسخطتماني و ما أرضيتماني ، و لئن لقيت النبي لأشكونكما إليه . والله لأدعون عليك يا أبا بكر في كل صلاة أصليها ) !! فبكى الخليفة المتغلب و خرج من بيت فاطمة على الجموع التي كانت تنتظر خروجه و قال لهم : ( يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله و تركتموني و ما أنا فيه ، لاحاجة لي في بيعتكم . أقيلوني بيعتي ) !! لكن بطون قريش و المنافقين و المرتزقة من الأعراب رفضوا ذلك ، و لعل هذا الخليفة لو أصر على الإستقالة لقتلوه على الفور و ولّوا عمر بن الخطاب أو عثمان ، أو غيرهما من الطواقم الطامعة بالخلافة ، و التي كانت محسوبة على رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) !!
فأي عنف و أية عملية عسكرية و أية قوة ، كان يمكن أن تؤدي إلى هذه النتيجة التي حققتها المواجهة السلمية بين السيدة الزهراء و بين الخليفة المتغلب و نائبه !! 10 .
و بثت الزهراء شكواها ذات يوماً لعلية القوم ، فقصدت المسجد في جمع من نسائها و خطبت فقالت : « ويحهم أنى زحزحوها ( أي الخلافة ) عن رواسي الرسالة و قواعد النبوة و مهبط الوحي ، الطَّبِن بأمور الدين و الدنيا . ألا ذلك هو الخسران المبين ! و ما الذي نقموه من أبي الحسن ؟ نقموا منه والله نكير سيفه ، و شدة وطأته ، و نكال وقعته ، و تنمره في ذات الله ! والله لو تكافأ على زمام نبذه رسول الله ، لاعتقله و سار بهم سيراً سجحاً ، لا يكلم خشاشه ، و لا يتنعنع راكبه ، و لأوردهم منهلاً روياً فضفاضاً ، تطفح ضفتاه ، و لا يترنم جانباه ، و لأصدرهم بطاناً ، و نصح لهم سراً و إعلاناً ، غير متحمل منهم بطائل ، إلا بضمر الناهل ، وردة سورة الساغب ، و لفتحت عليهم بركات من السماء و الأرض ، و سيأخذهم الله بما كانوا يكسبون !
ألا هلم فاستمع ، و ما عشت أراك الدهر عجباً ، و إن تعجب فقد أعجبك الحادث ، إلى أي لجأ لجأوا ، و بأي عروة تمسكوا ! لبئس المولى و لبئس العشير ، بئس للظالمين بدلاً ! استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، و العجز بالكاهل ، فرغماً لمعطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنهم هم المفسدون و لكن لايشعرون ! ويحهم أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي فمالكم كيف تحكمون . . . » 11 .
و هناك الكثير من المواجهات السلمية المذهلة التي جرت بين السلطة الغاصبة و بين أهل بيت النبوة 12 . و لا نبالغ إذا قلنا بأن هذه المواجهات هدمت عملياً الأساس الذي قامت عليه السلطة الغاصبة ، و أثبتت تعارضها مع كافة الأوامر الإلهية و الترتيبات النبوية المتعلقة بمن يخلف النبي ، و برهنت على أن هذه السلطة الغاصبة زرعت بذور الخلاف و الإختلاف بين أفراد الأمة و جماعاتها ، و فتحت أبواب التقاتل على مصراعيه عند ما جعلت منصب الخلافة لمن غلب ، و رفعت عملياً أحكام الشريعة الإلهية من واقع الحياة ، ولم تبق منها إلا القشرة الخارجية اللازمة لبقاء الملك و توسيعه ، مما أدى إلى اختفاء العدل و شيوع الظلم ، و انتهاك حقوق الأفراد و حرياتهم الإنسانية ، و تركها بدون حماية حقيقية ، و أدى ذلك كله إلى اضطراب كافة نواحي الحياة في‏ المجتمع الإسلامي كله ، فتحملت السلطة وزر تبديل نعمة الله كفراً و إحلال الأمة دار البوار !
و قد أثبتت المواجهات السلمية أن السلطة الغاصبة قد تكونت و نشأت نتيجة تحالف أعداء الله السابقين مع المنافقين و الطامعين بغير حق بمنصب خلافة النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، و كانت منابر جامعات و معاهد و إعلام ، ساعدت الأمة الإسلامية على الوقوف التام على حقيقة ما جرى ، فعرف المنصفون أنه انقلاب كامل على الشرعية الإلهية !! و لو أن أهل بيت النبوة سلكوا طريق الضعف ، أو المواجهة المسلحة ، لكان من المستحيل تشخيص الداء الذي غرسته السلطة الغاصبة ، و لأبادتهم السلطة عن بكرة أبيهم و لطمست الحقائق كلها ، و تعرض الدين و مستقبله لخطر ماحق !
و ما يعنينا هو التأكيد على أن حماية الحقوق و الحريات الإنسانية و الدفاع عنها ، بالوسائل السلمية هو لصالح الإنسان المظلوم ، و هو الأسلوب الأبعد تأثيراً و إن طال الزمان ، و أن اللجوء إلى العنف و القوة قد يصب في مصلحة السلطة الغاصبة فيعطيها الفرصة لقتل معارضيها و التخلص منهم ، ثم انتحال الأعذار و استعمال قدرتها الإعلامية الهائلة لقلب الحقائق !!

5. حالة مواجهة السلطة و الدفاع عن الحقوق بالقوة و العنف

أما إذا جهرت السلطة بعصيانها و كفرها ، فإن قتالها يصبح فرض عين على كل مسلم و مسلمة ، و لكن في هذه الحالة لايجوز لكل إنسان أنه يركب رأسه و يشكل لنفسه جماعة و يبدأ بقتال السلطة ، فهذا هو الجنون بعينه و الفتنة بعينها ، بل يتوجب على أفراد المجتمع أن يهرعوا إلى أهل بيت النبوة بوصفهم أحد ثقلي الإسلام و أصحاب الولاية العامة على الأمة ، و يضعوا أنفسهم تحت تصرف إمام أهل البيت أو عميدهم ، و هو بدوره يتولى تقدير الموقف و توجيه المسلمين إلى الحل الأمثل الموافق للشرع . و هذا خارج عن بحثنا في حق الإنسان كإنسان بالدفاع عن حقوقه .
و أحياناً تتصرف السلطة بما يتعارض مع الشرائع الإلهية و الشريعة الإسلامية خاصة و مع بديهيات الأخلاق و الأعراف التي تعارف عليها البشر ، فتستهتر بوجود الإنسان و تمتهن كرامته ، و تبالغ باحتقاره ، و تتجاهل كل حقوقه ، فتتصرف كجماعة من اللصوص أو قطاع الطرق ، و تعتدي على الإنسان أو عرضه أو ماله أو معتقده ، كأن تشرع بقتله ، أو قتل ابنه ، أو بتدنيس عرضه ، أو بهدم معبده ، أو بإحراق منزله ، أو حرق بيدره ، أو بإجباره على ارتكاب معصية .
و أحياناً يفر الإنسان بدينه و نفسه و عياله و من معه ، و ما معه ، باحثاً عن ملجأ يحميه من شر السلطة الغاشمة و بطشها ، و يبقي على حياته و كرامته الإنسانية ، لكن السلطة الغاشمة تطارده بلا كلل و لا ملل ليلاً و نهاراً ، بقصد قتله و قتل عياله بدون وجه حق ، و بقصد إرغامه و إجباره على معصية الله و القيام بفعل غير مشروع .
فهل يجوز للإنسان في مثل هذه الأحوال و أمثالها أن ينهض بوجه السلطة المستبدة الغاشمة ، و يدافع عن نفسه و عياله و حقوقه و ماله و موقفه ، و يستعمل في دفاعه القوة و العنف الضروريين في مواجهة السلطة الوحشية ؟
نعم يجوز للإنسان ذلك ، بل يتوجب عليه أن يدافع ، فإذا انتصر عاش مكرماً عزيزاً ، و إن قتل فهو في الجنة مع الأنبياء و الصديقين و الشهداء و حسن أولئك رفيقاً .
و يجب على الإنسان المظلوم في ‏مثل هذه الحالة أن يغتنم ما تبقى من عمره ، لفضح السلطة الغاشمة و تعريتها ، و إثبات ظلمها و أنها ستقتله بدون وجه حق ، حتى تنتشر مقولات هذا الإنسان المظلوم بين الناس و تساعد على توعيتهم و تبصيرهم بالحقائق ، لترعوي عن ظلم غيره ، و لعلها تقف في هذا الظلم عند حد .
و أبرز الأمثلة على هذه الحالة ما جرى للإمام الحسين (عليه السلام) و أهله و من معه في‏ المدينة المنورة و في كربلاء ، حيث اضطر الإمام و أهله و من معه للدفاع عن أنفسهم ، و استعمال القوة في مواجهة السلطة الغاشمة في كربلاء ، فجسد عملياً للإنسانية معنى الدفاع عن النفس و الدين و المال و الولد ، و كيف تكون المواجهة مع السلطة المستبدة الغاشمة التي لاترعى في مؤمن إلاًّ و لا ذمة ، فكتب بدمه الشريف و دم أصحابة أعظم صفحة في تاريخ مقاومة الإنسانية للظلم الفادح ، و جعلوا من دمائهم وقوداً للمصباح الذي يضئ طريق الإنسان في دفاعه عن النهج الإلهي و عن الحقوق والحريات و الكرامة الإنسانية .

دفاع الإمام الحسين عن حقوق الإنسان

و لكي نفهم بإيجاز و اختصار القصة الخالدة لدفاع الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، نشير أولاً إلى أن الله تعالى قد أوحى لنبيه بأنه قد اختار الإمام علي ليخلفه في قيادة ، و اختار من ذرية النبي و من صلب علي أحد عشر إماماً يعين كل منهم بعهد ممن سبقه ، و أولهم الإمام الحسن الذي سيخلف الإمام علي ، و ثانيهم الإمام الحسين الذي سيخلف الحسن . . . و أمر الله نبيه أن يعلن ذلك للمسلمين و يأخذ موافقتهم على هذا الإختيار الإلهي فأعلن الرسول ذلك للمسلمين ، فقبله البعض منهم و تظاهر الآخرون بقبوله ، و ركز الرسول الأعظم بأمر من ربه على الإمام علي بصفته أول الأئمة و قدمه للأمة بكل الصفات و الألقاب المعروفة للرئاسة في يوم غدير خم ، و أعلنه رسمياً ولياً و قائداً للأمة و بايعه المسلمون على ذلك بحضور النبي .
و بعد عودة الرسول من غديرخم مرض مرض الموت و قعد على فراش الموت ، فاغتنم قادة بطون قريش « و هم أعداء الله السابقون » فرصة مرض النبي فأقاموا تحالفاً مع المنافقين و الذين في‏ قلوبهم مرض و الذين في ‏قلوبهم زيغ ، و الطامعين بخلافة النبي ممن كانوا محسوبين عليه ، و اتفقوا جميعاً على رفض الترتيبات الإلهية و الإعلانات النبوية المتعلقة بمن يخلف النبي ، و اتفقوا على نقض بيعتهم للإمام علي ، و الإستيلاء بالقوة و القهر على منصب الخلافة ، و تنصيب خليفة حتى و النبي على فراش الموت ! و لما سمعوا أن النبي بصدد كتابة وصيته و عهده قبل موته ، تجمع زعماء هذا التجمع الآثم و حشدوا معهم الطلقاء ، و اقتحموا منزل رسول الله و حالوا بينه و بين كتابة وصيته و بعدها خرجوا و اجتمعوا و نصبوا خليفة و واجهوا الإمام علي و أهل بيت النبوة ، بأمر واقع لا مجال لدفعه ! و في الوقت الذي كان فيه أهل بيت النبوة و وجوه حزب الله يدفنون فيه النبي ، كان التجمع الآثم يزف الخليفة الغاصب زفاً من سقيفه بني ساعدة إلى المسجد ، حيث كان أهل البيت و المؤمنون يوارون النبي في ضراحه الأقدس !!
و طلب قادة التحالف الآثم ممن يدفنون النبي أن يبادروا على الفور بمبايعة الخليفة الغاصب ، لأن بطون قريش كلها و المنافقون و المرتزقه من الأعراب و جزء كبير من الأنصار قد بايعوه ! و أعلن أولئك القادة أنهم سيعتبرون كل من يتخلف عن بيعة الخليفة الغاصب شاقاً للطاعة و مفارقاً للجماعة و مباح الدم !!! و قدر إمام أهل البيت الموقف فعارض معارضة تحتفظ بحقه ، و لا تفرق المسلمين الحديثي العهد بالإسلام .
و قبل أن يموت الخليفة الأول عهد بالخلافة لنائبه و رفيق دربه عمر بن الخطاب ، و قبل أن يموت عمر عهد عملياً بالخلافة لنائبه و رفيق دربه عثمان بن عفان ، و بقصد التقليل من شأن أميرالمؤمنين علي ، و بقصد تكثير منافسيه عهد نظرياً لستة منهم الإمام علي ، و وضع شروطاً تجعل من المحتوم أن يكون صاحبه عثمان هو الخليفة .
و خلال حكم الخلفاء الثلاثة تمت تعبئة أغلب الوظائف العامة الحساسة من أعداء الله السابقين ، و من الذين يحقدون على الإمام علي بالذات و على أهل بيت النبوة عامة و اختاروا معاوية بن أبي سفيان أشد الناس حقداً على الإمام علي و أهل بيت النبوة و سلموه ولاية الشام ، و هي أعظم ولايات الدولة الإسلامية ، و تركوا له الحرية ليتصرف بهذه الولايه كملك حقيقي ، فإذا آلت الخلافة إلى علي يتصدي له من مركز القوة ! و بالفعل عندما آلت الخلافة إلى الإمام علي و بايعه الجميع رفض معاوية ابن أبي سفيان بيعة الإمام مع أن الخلافة قد آلت إلى علي بنفس الطريقة التي آلت فيها إلى من سبقه ، و مع أن الذين بايعوا علياً هم أنفسهم الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة قبله ، و لكن الأمر قد رتب بليل مظلم و أعلن معاوية الحرب على أميرالمؤمنين و سريعاً التفَّت بطون قريش و المنافقون و المرتزقة من الأعراب حوله ، كما التفوا حول الخليفة الأول ، فوقف هذا التجمع ضد علي كما وقف من قبل ضد النبي ، و في هذه الأثناء اغتيل الإمام علي فآلت الخلافة إلى الإمام الحسن و استمر معاوية بحربه ، و سخر الأموال التي جمعها طوال فترة حكمه على ولاية الشام في شراء ضمائر الناس ، و سخر الجيش القوي الذي بناه في إرهاب الناس ، و كان واضحاً أن الدائرة ستدور على الإمام الحسن و على القلة المؤمنة التي بقيت معه ، وكان واضحاً أن معاوية كان يهدف من حربه إلى إبادة كل الفئة المؤمنة الصادقة إبادة كاملة !
في هذا الوقت بالذات عرض معاوية على الإمام الحسن الصلح على أن يتنازل لمعاوية عن الخلافة فيكون معاوية خليفة طيلة حياته ، و بعد موته تؤول الخلافة إلى الإمام الحسن ، و إن كان الإمام الحسن ميتاً تؤول إلى أخيه الإمام الحسين ، و أعطى معاوية كل عهوده على تنفيذ هذا الإتفاق .
و حقناً لدماء المسلمين تنازل الإمام الحسن و أصبح معاوية بالقوة خليفة للمسلمين مع أنه طليق و ابن طليق ، أبوه قائد الشرك و رأس الأحزاب ، و أمه آكله الأكباد ، و اضطر و أبوه و قومه اضطراراً للتلفظ بالشهادتين ! و بالتالي هو لايعرف من الدين إلا اسمه ، و ليس مؤهلاً للحكم بما أنزل الله لأنه يجهل الشريعة الإلهية .
لكن لما تم لمعاوية ما أراد تنكَّر لاتفاقه مع الإمام الحسن ، و فرض على المسلمين قاطبة أن يسبوا الإمام علي و أهل بيت النبوة و يتبرؤوا منهم ، و عمم على كافة ولاته أن من اتهمتموه بحب علي و أهل البيت فاهدموا داره ، و امحوا اسمه من ديوان العطاء ، و لا تقبلوا له شهادة ، و من اتهمتموه بموالاة أهل البيت فاقتلوه !
و أمرهم أن يلعنوا الإمام علي و أهل البيت في كل مكان ، و عند ابتداء كل كلام و انتهائه زيادة على خطبة الجمعة ! ولم يكتف بذلك حتى أعلن أن ولي عهده و الخليفة من بعده هو ابنه يزيد ، و ما أدراك ما يزيد ! إنه فاجر خليع ، مدمن على الخمر ، تارك للصلاة ، معلن لعصيانه لله ، و كان يعلن كفره من حين لآخر ، لكن معاوية أخذ له هو و ولاته و أمراؤه البيعة بالقوة ، و فوضهم أن يقتلوا بغير رحمة كل من يمتنع عن بيعة يزيد ، و شدد على ضرورة أخذ البيعة من الإمام الحسين بالذات ، و من أهل بيت النبوة عامة ، فإن أبوا فيجب قتلهم جميعاً و بغير رحمه !!!

معنى بيعة الإمام الحسين ليزيد بن معاوية

أرسل يزيد الى والي المدينة أن يخير الحسين بين البيعة له أو القتل ! و بيعة الإمام الحسين ليزيد تعني : أن الإمام الحسين يشهد بأن يزيداً الماجن الخليع أهلٌ لخلافة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و مؤهل للحكم بما أنزل الله . و أنه يشهد بأن الله لم يختره للإمامة و القيادة ، و أن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) لم يعلن ذلك !
و تعني أيضاً أن يشهد الحسين أنه لا وجود لاتفاق بين الإمام الحسن و معاويه بأن الخليفة الشرعي من بعد معاوية هو الإمام الحسين . و تعني أيضاً أن استخلاف معاوية لابنه الخليع استخلاف شرعي ! هكذا يفهم الحسين البيعة ليزيد ، مما يعني أن القوم يخيرونه بين شهادة زور مخمسّة و بين القتل !
ثم إن القوم يعاملون الإمام بمهانة و احتقار ، و بطريقة لا تليق بمعاملة إمام اختاره الله و لا بمعاملة ابن النبي ، و لا بمعاملة سيد شباب أهل الجنة ! فهم يطلبون منه بكل وقاحة أن يبايع أو أن يواجه الموت ! و تنفيذاً لذلك دعا والي يزيد على المدينة الإمام الحسين (عليه السلام) و قال له : بايع أو تقتل ! فقال له الإمام : الدنيا ليل و نصبح و نرى رأينا !
و خرج الحسين من قصر والي المدينة ، و قدّر أن أهل المدينة لن يحموه و لن يحموا موقفه ، و أنه سيقتل و أهله غداً إن لم يبايع ، و ليس معه الوقت الكافي . لذلك حمل أهله و أصحابه و سار بهم ليلاً نحو مكة ، لعله يجد من يحميه و يحمي موقفه .
في الصباح علمت السلطة الغاشمة بمسيرة الحسين إلى مكة ، و أنه يبحث عن الحماية ، فأوعزت لعملائها القذرين في العراق ليكتبوا إلى الإمام بأنهم على استعداد لحمايته و حماية من معه و حماية موقفه ، و كتبوا بالفعل و أرسلوا رسلاً تحمل كتبهم ، فلما وصلت للحسين قرر أن يذهب إلى العراق لعله يجد الحماية المنشودة ، و أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليستوثق له و يمهد لقدومه ، و وصل مسلم و تظاهر أعوان الطاغية بأنهم مع مسلم و بايعه منهم 18 ألف على أن يحموا الحسين و أن يكونوا معه ، و أقسموا على ذلك بالله و برسوله و بكتابه ، و هم كاذبون !!
عندما علمت السلطة الغاشمة بقدوم الحسين إلى العراق أرسلت ألف فارس ، لينتظروه على حدود العراق ، و ليرافقوه إلى مكان يدعى « كربلاء » و جهزوا جيشاً قوامه 20 ألف مقاتل و أمرتهم بأن يحيطوا بالمكان الذي سينزل فيه الحسين و أهله و من معه و أن يحولوا بينه و بين الماء حتى يموت عطشاً ، و بالفعل رافق الألف فارس الإمام الحسين ، و أجبروه على النزول في كربلاء و منعوا عنه الماء !
كان عدد من كانوا مع الحسين لا يتجاوزون 72 رجلاً ، و كان عدد جيش الطاغية يربو على 21 ألف مقاتل ، و كان الإمام الحسين يعرف النتيجة سلفاً ، و حتى قبل أن يخرج من المدينة المنورة ، لكن لا الحسين و لا الذين كانوا معه ، و لا أنا و لا كل عاشقيه يقبلون الموت بالهوان و الذل .
وقف الإمام الحسين (عليه السلام) لإقامة الحجة على القوم قبل أن يبدأ القتال ، و ركب على جمل و نادى بأعلى صوته فأرهب جيش الطاغية ، فحمد ربه و أثنى عليه و صلى على النبي و آله و قال مخاطباً إياهم : إتقوا الله ربكم و لا تقتلوني ، فإنه لايحل لكم قتلي ، و لا انتهاك حرمتي ، فإني ابن بنت نبيكم ، و جدتي خديجة زوجة نبيكم ، و لعله قد بلغكم قول نبيكم : الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة » 13 .
( أنسبوني فانظروا من أنا ، ثم ارجعوا إلى نفسكم و عاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي !! ألست ابن بنت نبيكم و ابن وصيه و ابن عمه ، و أول المؤمنين بالله و المصدق لرسوله بما جاء من عند الله ؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم ‏أبي ؟ أ و ليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمي ؟ أفتشكون أني ابن بنت نبيكم ؟ فوالله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي منكم و لا من غيركم ! أخبروني أتطلبوني‏ بقتيل منكم قتلته أو حال استهلكته أو بقصاص من جراحة !! » أيها الناس إنْ كرهمتوني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض ! فقيل للإمام : إنزل على حكم يزيد ! فقال الإمام : لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل و لا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله إني عذت بربي و ربكم أن ترجمون ، إني عذت بربي من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . . . و لما وصل الإمام إلى هذا الحد أناخ راحلته ، و أمر عقبة بن سمعان بعقلها و أقبل الجيش الإسلامي !! يزحف نحوه ) 14 .
و أبى جيش الطاغية إلا قتل الإمام و أهله و من معه ! عندئذٍ شهر الإمام سيفه و شهر من معه سيوفهم ، و اضطروا للمواجهة المسلحة مع السلطة الغاشمة ، و بالرغم من الفوارق الهائلة بين الحسين و من معه الذين لم يتجاوزوا 72 رجلاً و بين جيش الطاغية الذي تجاوز 21 ألف مقاتل ، إلا أن الحسين و أصحابه قاتلوا قتالاً لا مثيل له في التاريخ البشري ، حتى أبيدوا عن بكرة أبيهم ، ولم يبق إلا الإمام الحسين فهجم على الجيش بمفرده و كشف ميمنته ثم كشف قلب الجيش ثم كشف ميسرته ، ولم يمكن القضاء على الإمام الحسين إلا بعد أن رشقه الجيش كله بالسهام و الحراب ، و أخذ الدم ينزف من كل مكان من جسده الشريف ، الذي زرعوه زراعة بالسهام !
هناك اندك الجبل الأشم ، هناك غاب القمر ، و انطفأت النجوم ، و عمت الظلمات ، و هدأت الأصوات ، ولم تسمع إلا صوت ندب و بكاء بنات الرسول !!!
و على الفور هجم الجيش على مخيم الحسين ، و نهبوا كل ما فيه و سلبوا النساء حليهم ، و نهبوا كل ما وجدوه في جثث الشهداء ! و أصدر قائد الجيش أوامره بأن يضعوا الشهداء في صفوف ، ثم يدوسوا صدورهم بحوافر الخيل ! و بعد أن فعلوا ذلك أمر قائد الجيش رجاله بأن يقطعوا رأس الحسين و رؤوس كل الشهداء و أن يحملوا هذه الرؤوس على الرماح ، على أن تعرف كل قبيلة من قبائل العرب اشتركت في القتال عدد الذين قتلتهم من أهل الحسين و أصحابه ، لأن الطاغية سيحدد مقدار المكافأة على عدد الرؤوس !!!
هذه هي طبيعة السلطة الطاغية التي اضطر الحسين و أهله و صحبه أن يقاتلوها دفاعاً عن أنفسهم و أهليهم و معتقداتهم ، و عن حقوقهم و حرياته الإنسانية الممتهنة » 15 .
ففي مثل هذه الحالة لا تكون المواجهة مع السلطة بالقوة المسلحة جوازاً شرعياً فحسب ، بل واجباً يتحتم على الإنسان أداؤه 16 .

  • 1. راجع كتابنا « المواجهة مع رسول الله : 547 ـ 549 تجد توثيق كل كلمة قلناها ، و كل تهمة اسندناها .
  • 2. شرح النهج : 3 / 69 .
  • 3. نفس المصدر : 1 / 249 و راجع كتابنا الخطط السياسية لتوحيد الامة الإسلامية : 496 ـ 498 .
  • 4. نفس المصدر : 1 / 249 و راجع كتابنا الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية : 496 ـ 498 .
  • 5. الامامة و السياسة لابن قتيبة الدينوري : 1 / 11 ـ 12 .
  • 6. نفس المرجع / 13 .
  • 7. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 150 ، الصفحة : 169 .
  • 8. نفس المرجع / 12 ـ 13 .
  • 9. راجع المراجعات للامام العاملي : 332 ـ 334 و الامامة و السياسة : 12 ـ 14 « بيعة أبي بكر » .
  • 10. تجد تفاصيل ذلك في كثير من المراجع منها على سبيل المثال الامامة و السياسة : 1 / 13 و ما فوق .
  • 11. اخرجها ابو بكر الجوهري في كتابه السقيفة ، و رواها أحمد بن أبي الظاهر المتوفى سنة 280 هـ في كتابه بلاغات النساء : 4 / 23 و أوردها الطبرسي في الاحتجاج ، و المجلسي في البحار . راجع المراجعات : 341 .
  • 12. راجع كتابنا النظام السياسي في‏الإسلام : 150 و مافوقه تجد عشرات من هذه المواجهات السلمية .
  • 13. مقتل الحسين للخوارزمي : 1 / 252 ، و المناقف لابن شهرآشوب : 4 / 100 و الموسوعة : 417 ـ 416 .
  • 14. تاريخ الطبري : 2 / 218 و الارشارد للمفيد : 224 و الكامل لابن الأثير : 2 / 561 ، و بحار الأنوار : 45 / 6 و العوالم : 17 / 250 ، و أعيان الشيعة :1 / 602 و وقعة الطف : 206 مع اختلاف يسير .
  • 15. راجع كتابنا « كربلاء الثورة و المأساة » تجد التفصيلات الضرورية لفصول هذه المواجهة و نهايتها المفجعة المروعة ، و توثيقنا لكل كلمة قلناها ، و راجع كتابنا المواجهة مع رسول اللَّه و آله القصة الكاملة .
  • 16. كتاب : حقوق الانسان عند أهل بيت النبوة و الفكر المعاصر ، الفصل السادس .