الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نقض مبدأ الشورى

عن سلمان الفارسي «رضي الله عنه» قال: «قلت يا رسول الله لكل نبي وصيّ، فمن وصيّك؟ فسكت عنّي، فلما كان بعد رآني فقال: يا سلمان، فأسرعت إليه قلت لبيك، قال: تعلم من وصيّ موسى؟ قلت: نعم يوشع بن نون. قال: لم؟ قلت: لأنه كان أعلمهم. قال: فإنّ وصيي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب»
قال الطبراني: «قوله وصيي يعني أنّه أوصاه في أهله لا بالخلافة» 1.
هذه الرّواية أخرجها سليمان بن أحمد المعروف بالطّبراني في كتابه «المعجم الكبير»، وهو من كبار علماء أهل السنّة وحفاظهم، وزعمه أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» أراد من قوله «وصيي» خصوص الوصاية على أهله، لا أنّه أراد الخلافة والولاية على الأمّة ليس عليه دليل من مضمون هذه الرّواية، والظاهر أنّ الطبراني علقّ بهذا القول بناءً على عقيدتهم من أنّ النبي «صلى الله عليه وآله» رحل عن الأمّة دون أنْ يعيّن من يقوم مقامه في إدارة أمور وشؤون الأمّة من بعده، وقالوا بأنّ اختيار الخليفة وولي الأمر متروك لأهل الحل والعقد من الأمّة يتشاورون فيهما بينهم ويختارون من يرونه صالحًا ومناسبًا لتولّي هذا المنصب، ولكننا إذا رجعنا إلى التاريخ وبحثنا عن الطريقة التي تولّى بها كل من تسنّم منصب خلافة النبي «صلى الله عليه وآله»  لم نجد تطبيقًا لمبدأ الشورى قط، وإنّما كان توليهم إمّا عن طريق القهر والغلبة أو التعيين والنّص من السابق على اللاحق، فالشّورى لم يعمل بها في اختيار الخليفة الأوّل بدليل قول عمر بن الخطّاب: «... ثم إنّه بلغني أنّ قائلًا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانًا، فلا يغترن امرؤ أنْ يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكنّ الله وقى شرّها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أنْ يقتلا ...» 2.
فهذه شهادة من عمر بن الخطّاب على أنّ تولّي أبي بكر لمنصب الخلافة لم يكن عن شورى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، وإنّما كانت فلتة - حسب تعبيره - ولذلك نجده يدعو إلى الأخذ بمبدأ الشّورى في تعيين الخليفة ويأمر بقتل من بايع وبويع له على الطريقة التي تولّى بها أبو بكر.
ونحن نقول: إذا كان تولّي أبي بكر لمنصب الخلافة قد تم وفق الضوابط والموازين الشرعيّة فالعودة إلى الطريقة التي تمت بها بيعته تكون محمودة، لأنّها موافقة للشرع الشريف وتعاليم الدّين الحنيف، فلماذا إذًا يدعو عمر إلى قتل المبايع والمبايع له؟!
وكذلك لم يكن تولّي عمر بن الخطّاب لمنصب الخلافة بعد أبي بكر قد تم عن طريق الشّورى، وإنّما باختيار وتعيين من أبي بكر، فإنّ أبا بكر لما أنْ اشتدّ به المرض وأحسّ بدنوّ أجله بعث إلى عمر لكي يأتي إليه ليستخلفه، فقال المسلمون: «استخلف علينا فظًّا غليظًا، فهذا إذا ولي كان أفظّ وأغلظ. ثم قالوا لأبي بكر: ما تقول لربّك إذا أتيته وقد استخلفت عمر؟ فقال: أبربّي تخوّفوني؟! أقول: أمّرت عليهم خير أهلك» 3.
فأبو بكر لم يترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يرونه مناسبًا لتولّي منصب الخلافة، وإنّما عيّن ونصّب عمر عليهم، ولما أنْ احتجّوا عليه بقولهم: «ما تقول لربّك إذا أتيته وقد استخلفت عمر؟» أجابهم بأنّه إنّما نصّبه وعيّنه لكونه -حسب دعواه - أفضلهم.
فإذا كانت الشّورى هي السبيل الوحيد الذي جعله الله لتنصيب من يتولّى خلافة النبي «صلى الله عليه وآله» فتكون خلافة أبي بكر غير شرعيّة لأنّها لم تتم عن طريق الشّورى، وكذلك خلافة عمر بن الخطّاب، ويكون أبو بكر خالف ما أرشد الله سبحانه وتعالى إليه وأمر به حين نصّب عمر بن الخطّاب من بعده ولم يجعل الأمر شورى بين المسلمين.
وعمر نفسه الذي دعا إلى الشّورى لم يلتزم بها عندما صرّح قبل وفاته بقوله: «لو كان سالم حيًّا لما جعلتها شورى» 4.
وقوله: «لو أدركني أحد رجلين ثمّ جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به، سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجرّاح» 5.
وقوله: «لو كان معاذ حيًّا لاستخلفته» 6.
نعم هو بعد ذلك جعل الأمر شورى بين ستة نفر، ولكن هذا أشبه إلى التعيين منه إلى الشّورى، فهي شورى محاطة بشروط عجيبة وغريبة 7.
وهؤلاء الستة نفر المرشحون لمنصب خلافة النبي «صلى الله عليه وآله» إنّما كانوا مرشّحين من قبل الخليفة، وأنّ اختيار واحد منهم لخلافة عمر يتم فيما بينهم، فليس لبقيّة المسلمين من المهاجرين والأنصار من أهل الحل والعقد دخل في هذا الاختيار.
ثم أننا لم نجد فيما بين أيدينا من نصوص مأثورة عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه تحدّث عن الشّورى كمبدأ وأساس في تعيين الخليفة والحاكم بعده، فلو أنّ الشورى هي الأسلوب الشّرعي في ذلك لكان من المنطقي أن يبيّن النبي «صلى الله عليه وآله» معالمها وأركانها وشرائطها وسائر مقوّماتها والطريقة التي تتم بها، ولكننا لم نجد شيئًا من ذلك مع أنّه «صلى الله عليه وآله» قد بيّن أبسط أحكام الدّين، فلماذا لم يبيّن هذا الأمر على أهميته وخطورته؟!
فهل يعقل أنْ لا يبدو من النبي «صلى الله عليه وآله» أيّ اهتمام أو حرص فيما يخصّ الشّورى لو أنّها كانت هي الطريقة الشّرعيّة في اختيار الخليفة؟
أولا لا يبدو منه أيّ اهتمام لمسألة الحاكم الذي يخلفه من بعد مماته بينما يكون غيره أكثر منه اهتمامًا وحرصًا على مصير الأمّة فيقدم على الوصاية من بعده ولا يقدم النبي «صلى الله عليه وآله» على ذلك؟
ومن وجوه عدم صلاحية جعل اختيار الخليفة والإمام للأمة أنّ الأمة غير قادرة بنفسها ولا مؤهّلة لهذه المهمّة، فهي لم تخلع بعد عن نفسها ثوب الجاهليّة بكاملها، بل لا زالت تخضع في قراراتها واختياراتها للأهواء والعصبيّات الجاهليّة والمصالح والمطامع الشّخصيّة والفئويّة، ومن شواهد ذلك ما حصل في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار، وما حصل بين أهل الشّورى من بعد مقتل عمر بن الخطّاب، من تحكيم للأهواء والعصبيّات الجاهليّة المقيتة، وتقديمها على مصلحة الأمّة، ولقد وصف الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» حال أولئك النّفر بقوله: «فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر إلى صهره، مع هن وهن» 8.
فيتّضح من ذلك أنّ نظام الشّورى غير قادر دائمًا على تقديم الأفضل والأصلح بخلاف النّص على الإمام والخليفة المنبثق عن الاختيار الإلهي، إذْ لا مجال حينها لاحتمال أنْ لا يكون المختار والمعيّن ليس بأصلح ولا بأنسب لتولّي مهام الإمامة ما دام أنّ من اختاره هو علام الغيوب، ومن لا تخفى عليه خافية.
ثم إنّ منصب الإمامة ليس بمنصب تنحصر مهمته في القيادة والإدارة السياسيّة، فالقيادة والإدارة السياسيّة واحدة من مهمّاته المتعدّدة، فجميع وظائف منصب النبوّة هي وظائف لمنصب الإمامة باستثناء وظيفة تلقي الوحي بمعنى الاتيان بالشّريعة، لأنّ الشّريعة قد اكتملت في حياة النبي «صلى الله عليه وآله»، فلا حاجة لوجود شخص من بعده يشغل هذه الوظيفة، أما بقيّة المهام فهي تحتاج إلى من يشغلها ويقوم بها، وعلى هذا يكون منصب الإمامة كمنصب النبوّة منصب إلهي، فكما أنّ الله سبحانه وتعالى هو من يختار النبي من بين النّاس ويعينه نبيًّا ورسولًا فكذلك الإمام وخليفة النبي يكون اختياره وتعيينه من حق الله واختصاصه وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 9.
وبما أنّ مهمّات الإمام هي نفس مهمّات النبي إلاّ ما استثني، فلا بدّ وأنْ تكون للإمام من الخصائص والسّمات والصّفات مما له ارتباط بأداء مهام الإمامة نفس ما للنبي منها مما له ارتباط بأداء مهام النبوّة، ومن ذلك العصمة، وقد عرّفها العلامة السبحاني بأنّها: «قوّة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجبًا ولا يفعل محرّمًا مع قدرته على التّرك والفعل، وإلاّ لم يستحق مدحًا ولا ثوابًا، وإنْ شئت قلت: إنّ المعصوم قد بلغ من التّقوى حدًّا لا تتغلّب عليه الشّهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطئ معها أبدًا» 10.
ومن أدلّة اشتراطها في الإمام قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 9. فلما أنْ أعلم الله سبحانه وتعالى خليله إبراهيم «عليه السلام» بأنّه جعله للنّاس إمامًا، فأعطاه منصب الإمامة وهو منصب زائد على منصب النبوّة طلب إبراهيم «عليه السلام» هذا المنصب لبعض ذرّيته، فأجابه الله سبحانه وتعالى بأنّ الإمامة عهده ولا تعطى إلاّ لمن ليس بظالم، وحاشا لإبراهيم أنْ يطلب هذا المنصب لمن كان من ذريته ظالمًا حال توليه لمنصب الإمامة، فتبقّى من ذلك احتمالان، الأول: أنّه طلبه لمن كان ظالمًا في بداية عمره ولكنّه فعلًا هو تائب. والثاني: أنّه طلبه لمن طان طاهرًا لم يتصف بظلم أبدًا، والله سبحانه وتعالى نفى أنْ ينال عهده الظالم، فإذا كان إبراهيم «عليه السلام» لم يطلب منصب الإمامة لمن كان من ذرّيته حال تصديه للإمامة ظالمًا، فتعيّن أنّ المنفيّ في الآية هو من كان ظالمًا في بداية عمره وكان تائبًا حال تصدّيه لمنصب الإمامة فلم يبق لنا إلاّ من لم يتّصف في لحظة من لحظات حياته بظلم، ولا يكون كذلك إلاّ من كان معصومًا.
فثبت من دلالة الآية المذكورة أنّ الإمام يجب أنْ يكون معصومًا، وبما أنّ العصمة أمر خفي غير ظاهر للنّاس، فلا يعلمون من ذواتهم المعصوم من غيره، فيلزم من ذلك أنْ يحدده ويعيّنه ويشخصه من هو عالم بحال العباد، وهو الحق سبحانه وتعالى.
ثم إنّ رواية سلمان «رضي الله عنه» التي تصدّرنا بها الحديث تدل على خلاف ما ذهب إليه أبو القاسم الطبراني، فسلمان لم يرد من سؤاله عن وصي النبي «صلى الله عليه وآله» إلاّ وصاية الخلافة والنّص بالإمامة، وهو الذي فهمه منه النبي «صلى الله عليه وآله»، بدليل أنّه «صلى الله عليه وآله» سأله عن سبب جعل يوشع بن نون وصيًّا لنبي الله موسى «عليه السلام»، فأجابه سلمان لأنّه كان أعلمهم، وأقرّه النبي على ذلك، واشتراط أنْ يكون الوصي أعلم الجميع غير منظور لا شرعًا ولا عرفًا في مسألة الوصاية على الأهل، بخلاف الوصاية بالإمامة والخلافة، فالأدلّة قائمة على أنّ الإمام القائم مقام النبي يلزم أنْ يكون أعلم أهل زمانه11.

  • 1. الطبراني، المعجم الكبير 6/221.
  • 2. محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري 8/169.
  • 3. عبد الله بن محمد العبسي، مصنف ابن أبي شيبة 6/358، رواية رقم: 32013.
  • 4. أبو الفداء إسماعيل بن عمر، البداية والنّهاية 6/336.
  • 5. أحمد بن حنبل، مسند أحمد 1/20، رواية رقم: 129.
  • 6. الزيلعي، تخريج الأحاديث والآثار 2/250.
  • 7. للاطلاع على هذه الشروط يراجع تاريخ ابن الأثير تحت عنوان «ذكر قصة الشّورى»، وتاريخ الطبري تحت العنوان المذكور.
  • 8. المجلسي، بحار الأنوار 29/532.
  • 9. a. b. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 124، الصفحة: 19.
  • 10. السّبحاني، بحوث في الملل والنّحل 6/249.
  • 11. المصدر كتاب "محاضرات في الدّين والحياة ج1" للشيخ حسن عبد الله العجمي حفظه الله.