مجموع الأصوات: 106
نشر قبل 5 سنوات
القراءات: 5849

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المصالح والصراعات الدينية 1

«لا تتجلى النزعة الفطرية لدى الإنسان في شيء، كما تتجلى في نزوعه - من وراء جميع تصرفاته وأعماله - إلى تحصيل المنفعة لنفسه في الجملة، أي بقطع النظر عن كونها منفعة شخصية خاصة، أو منفعة عمومية شاملة له ولغيره.
فلا غرو - والإسلام دين الفطرة - أن تكون المنفعة في أتم مظاهرها وأوسع طاقتها محوراً لما شرعه الله لعباده، من شرائع وأحكام، وأساساً لجميع ما خطه لعباده من أخلاق وفضائل». (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، لمحمد سعيد رمضان البوطي)
لقد اعتنى الله سبحانه وتعالى بهذه النزعة الفطرية العاقلة في الإنسان، فأنزل رسالاته وأرسل رسله، وخلق هذا الكون بما فيه مسخراً للإنسان، كل ذلك رعاية منه سبحانه وتعالى لمصالح البشر وحماية لها.
ومصلحة الإنسان ليست إلا جلب النفع له أو دفع المفاسد عنه، فالذي يبحث عن مصلحته إما أن يبحث عن نفع يكتسبه أو مفسدة يدفعها عنه، وهذه هي طبيعة الأحكام الشرعية فهي إما لجلب مصلحة أو لدفع مفسدة فـ «الأحكام الخمسة التكليفية، وهي الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة ومنشأ هذا التقسيم هو أن فعل المكلف إما أن يكون ذا مصلحة خالصة بلا شوب مفسدة، أو مفسدة خالصة بلا وجود مصلحة أو يكون خالياً عنهما ليس فيه أحد الأمرين، وعلى الأولين أما تكون المصلحة أو المفسدة شديدة ملزمة أو ضعيفة غير ملزمة فهذه أقسام خمسة يتولد منها الأحكام الخمسة». (اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها، آية الله الميزا علي المشكيني)
سواء كانت هذه المصالح وتلك المفاسد من مفاسد ومصالح الآخرة أم الدنيا، إذ الدنيا ليست خارج هذه المعادلة في نظر القرآن الكريم  ﴿ ... وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ... 1، فمن كمال عقل الإنسان وفقهه للحياة أن يبحث عن مصالحه ومنافعه كشخص ومجموعة وفئة ومجتمع، ومن لا يتقن هذه المعادلة فليس له من حياته ودنياه، وقد لا يكون له من آخرته نصيب.
إن الإنسان يتعلم لأن في ذلك مصلحة له، فالعلم خير من الجهل، وهو يتوظف ويعمل بحثاً عن مصلحته ومصلحة عائلته ومجتمعه، وحتى العبادة والإيمان بالله سبحانه وتعالى والتسليم له ليست خارجة عن قاعدة المصلحة، فالإنسان لا يعبد إلا لمصلحته، ولم يفترض الله سبحانه العبادة على الناس إلا لمصلحتهم، ولذلك نرى القرآن الكريم يستهجن عبادة البشر لغير الله، مع ما في ذلك من تفويت لمصالحهم، بل يأمرهم أن يقيموا عبادتهم لآلهتهم على ضوء مصالحهم ضمن نطاقي جلب المنافع ودفع المفاسد، وما يجنونه من هذه العبادة وهذا التسليم، وإليك بعض الآيات في هذا السياق:
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ... 2.
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ... 3.
﴿ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ... 4.
﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا 5.

﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ... 6.
﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ 7.
بينما يشير سبحانه وتعالى إلى عباده أنه يملك الضر والنفع ﴿ ... قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ... 8.
أردت من الآيات السابقة أن أبين أن المصلحة والمنفعة ليست شيئاً منبوذاً في نظر الدين، بل الدين رعاها وأثبتها في أصل الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فالدين والمصلحة في حالة انسجام ما دامت المصلحة لا تتجاوز حدود ما أمر الله به، أو لم تصل إلى ما نهى عنه، أما إذا تجاوزت المصلحة حدود الشرع، أو كانت مصلحة هذا المخلوق في نواهي الله سبحانه حسب اعتقاد هذا الإنسان المحدود «فمصلحة الدين أساس للمصالح الأخرى، ومقدمة عليها، فيجب التضحية بما سواها مما قد يعارضها من المصالح الأخرى إبقاء لها وحفاظاً عليها». (ضوابط المصلحة المشار له)
فلا حياة الإنسان ولا ماله ولا ولده أعز من الدين ومصلحة الدين كما أن كل ما في الدنيا من نعيم ومال، لا يساوي لحظة إيمان بالله سبحانه وتعالى، ولنا في رسول الله  أسوة وقدوه، فحين عرضت عليه المصالح والملذات قال لعمه أبي طالب: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه».
كان هذا توطئة لمشروعية المصالح التي لا تستسيغ الجهات الدينية الحديث عنها وكأنها عار ودناءة، لتربط بعدها كل صراعاتها بالدين والقيم. وللحديث صلة. 9