حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
الشّباب و وقت الفراغ
قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» لأبي ذر الغفاري: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» 1.
كثيرة هي العوامل التي تكون سببًا لانحراف الشّباب، وأعني بانحراف الشّباب هو تجاوزهم على تعاليم الدّين والتّمرد على القيم والأعراف والعادات الحسنة التي يكون عليها المجتمع الذي يعيشون فيه .. فما نشاهده عند بعض الشّباب من ارتكابهم للمخالفات الشّرعية، وممارستهم للجرائم والذّنوب، ورفضهم للقيم والآداب والعادات الحسنة وتمردهم عليها، كل ذلك له أسبابه، حيث تشترك في إحداثه مجموعة من العوامل، بل إنّ العامل الواحد منها قد يكون كافيًا في دفع الشّاب إلى الجنوح والانحراف، ومن ذلك وقت الفراغ.
فمما تنبه له علماء الاجتماع أخيرًا واعتبروه مشكلة اجتماعية تحتاج إلى الدّراسة والبحث لها عن حلول هي مشكلة ساعات ووقت الفراغ، هذه المشكلة الاجتماعية هي نتاج لعدّة أسباب منها التّقدّم العلمي وما حصل من الطّفرة التكنولوجية، فكان لذلك الأثر الكبير في توفير جزء كبير من جهد الإنسان ووقته، فمثلًا كان حصاد بعض المحاصيل الزّراعيّة في السابق يحتاج إلى العشرات من العمّال، وإلى وقت كبير نسبيًّا من الزّمن، بينما لا يحتاج في وقتنا الحاضر إلاّ إلى شخص فنيّ واحد يدير آلة تقوم بالعمل الذي كان يقوم به ذلك العدد الكبير من الأشخاص، وفي وقت قصير جدًّا، فأصبح العمل الذي كان يحتاج إلى جهد كبير وينجز من قبل جماعة كبيرة من العمّال والأشخاص وفي عدّة أيام، ينجز في عصرنا الحاضر بعدد قليل من العمّال أو الفنيين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد وخلال فترة قصيرة من الزّمن، فقد لا يستغرق إلاّ جزءً يسيرًا من النّهار أو الليل، فنتج عن ذلك وجود من لا يجد عملًا ليشغل فيه وقته، فالتّقدم العلمي الحاصل في المجالات المختلفة واختراع آلات وأدوات الإنتاج الحديثة وغير ذلك ما هو إلاّ أحد عوامل حصول هذه المشكلة، وإلاّ فالعوامل والمسببات كثيرة؛ من عدم توفر فرص العمل، وإحالة الموظفين والعمّال إلى التّقاعد المبكّر وغير المبكّر، لا سيما في حالة عدم حصول أكثر المتقاعدين على ما يشغلون به ساعات فراغهم، والإجازات المتكررة أو التي يطول وقتها إلى عدّة شهور كما في الإجازات الصّيفية التي يحصل عليها الطلاب والمدرّسون، فهذا وغيره مما خلق عند الكثيرين من مختلف طبقات وشرائح المجتمع ومكوناته كبارًا كانوا أم شبابًا، رجالًا أم نساءً وقتًا من الفراغ.
والمشكلة ليست في وجود وقت فراغ عند الإنسان 2 وإنما في عدم استغلاله والاستفادة منه، فوقت الفراغ إنْ لم يستغل استغلالًا أمثلًا فهو مشكلة كبيرة وخطيرة لها ارتباط بالكثير من المشاكل التي يعاني النّاس منها في حياتهم، وهو أحد أسباب انحراف الشّباب وجنوحهم، فعادة ما يؤدّي الفراغ الكبير من الوقت إلى خلق وإيجاد عادات ذات أثر سلبي على الشّاب، فهو يؤدي إلى اللامبالاة واللاجديّة وإلى الخمول والكسل، وارتكاب الجرائم والمخالفات الشّرعية، والتّمرد على القيم والعادات والأعراف الاجتماعية.
يقول الكاتب «باسكال مينوريه» وهو يتحدّث عن ظاهرة «التفحيط» في مدينة الرّياض: «ويجتذب عالم التفحيط في الرّياض بصورة أساسيّة الشّباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 30 سنة، ممن تسرّبوا من المدرسة، أو ممن يبحثون عن عمل» 3.
ويقول أحدهم: «إنَّ العديد من الظواهر السّلبية انتشرت في مجتمعنا؛ ومنها: ظاهرة باتت تزعج الكثير من فئات المجتمع خصوصًا كبار السن والمرضى والأطفال والنساء، وهي ظاهرة التفحيط، التي تعدُّ من أخطر الظواهر حاليًا.
ومن أسباب ودوافع ظاهرة التفحيط: حب الظهور، والشهرة، والفراغ، وتقليد ومحاكاة رفقة السّوء، والتّنافس، واستعراض إمكانيات القيادة والمركبة، وضعف رقابة الأسرة على أبنائهم، فضلًا عن تأثير وسائل الإعلام من خلال ما تعرضه بعض البرامج التي تشجع على ممارسة التفحيط والقيادة بشكل جنوني، وكذلك التأثر بالألعاب الإلكترونية خصوصًا بين الأطفال» 4.
فلاحظوا كيف أنّ وجود وقت من الفراغ عند الشّباب مما يفضي إلى أنْ يهدروا ساعات فراغهم فيما يلحق بهم وبغيرهم الضّرر، كممارسة التفحيط، هذه الظاهرة السّيئة التي أودت في كل الأماكن التي تمارس فيها بحياة العديد من الأشخاص من الممارسين لها أو غيرهم من الحضور والمشاهدين.
فالشّباب عندما يكون لديهم متّسع من الوقت، ولا يجدون عملًا يمارسونه فيه يعود عليهم وعلى غيرهم بالنّفع، فإنّهم يفكرون في القيام بأي عمل حتّى وإنْ كان غير مفيد وكانت آثاره سلبيّة، وأمّا الشّباب الذين يقضون ساعات وقتهم في العمل والقيام بما هو مفيد ونافع لا يكون للفراغ مساحة في حياتهم، وبالتالي تتقلّص إلى حدٍّ كبير فرصة تعرضهم لأيّ نوع من أنواع الانحراف.
إنّ مرحلة الشّباب 5 من أهم المراحل وأخطرها في حياة الإنسان، وقد ورد في بعض النّصوص الشّرعيّة أنّ هذه الفترة من العمر تعد من جملة ما يسأل عنه العبد في يوم القيامة، فيسأل فيما قضاها وأمضاها، فعن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» أنّه قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت» 6.
ووجهت الشّريعة الإسلامية المسلم إلى اغتنام الفرص المتاحة له في هذه الحياة ومنها فترة الشّباب، ففي الرّواية عن النبي المصطفى «صلى الله عليه وآله»: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» 1.
فإضاعة الشّاب لوقت فراغه سدى يجعله يفقد قيمة وثمرة مرحلة هامة وحاسمة من حياته، فهي مرحلة يكون الإنسان فيها أكثر اقتدارًا على اكتساب العلم والمعارف والمعلومات والخبرات، وأعمال الخير والصّلاح والقيام بالأعمال النّافعة المفيدة.
فليعلم كل شاب بل كل إنسان أنّه لم يخلق ليأكل ويشرب وينام ويلهو ويلعب ويشبع شهواته ورغباته، وإنما خلق لهدف أسمى وأجل، خلق لكي يتكامل ويرتقي بجانبه الرّوحي إلى أرفع المراتب وأسماها، وبمقدار تكامله ورقيه روحيًّا تتحدد مكانته عند الله وفي الجنة، فمن كان أكثر تكاملًا ورقيًّا في جانبه المعنوي «الرّوحي» كانت منزلته عند الله أرفع ودرجته في الجنة أعلى.
ولا يتكامل العبد روحيًّا إلاّ بممارسة العبادة، العبادة بمعناها الشمولي الخاص منها والعام، فمثلًا من يؤدي عبادة الصّلاة مراعيًا في أدائه لها جميع شرائطها وواجباتها فيأتي بها صحيحة، وكذلك من يساعد المحتاجين ويعينهم ويقضي حوائجهم، ومن يبذل شيئًا من وقته في القيام بالنشاطات الدينية أو المشاركة فيها كتعليم الأطفال والشّباب أمور دينهم وأحكام العبادات ويغرس في نفوسهم الآداب والأخلاق، بل كل عمل عبادي يمارسه العبد فإنّه يحصل بسببه على شيء من الشّحنات الإيمانية ترفع من مستوى إيمانه وترتقي بتقواه إلى مراتب أعلى وأرفع مما كانت عليه.
إنّ تضييع الشّباب لأوقاتهم ناتج عن تقصير المؤسسات التربوية في القيام بدورها التوجيهي والإرشادي التّوعوي للشّباب لاستثمار وقت فراغهم في النّافع من الأعمال، فالأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية التوجيهية كالمساجد والحسينيات وغيرها لها الدّور الكبير في إرشاد الشّباب إلى الاستفادة المثلى من أوقات الفراغ لديهم، وذلك بتوجيههم لقضائه في الأنشطة النّافعة والبنّاءة التي تصقل شخصيتهم وتنمي قدراتهم ومواهبهم، والتي تعود عليهم وعلى مجتمعهم وأمتهم بالنفع، ومن ذلك الاشتراك في مشروعات الخدمات العامة والتطوّع في أعمال الخير والبرّ والإحسان، والتعلّم لكسب المزيد من العلوم والمعارف وغير ذلك مما هو نافع ومفيد.
فتقصير هذه المؤسسات في القيام بدورها هذا وعدم وجود من يوجه الشّباب يفضي إلى الكثير من السّلبيات ومنها خلق جيل من الشّباب الجانحين المنحرفين.
إنّ المسؤولية الأهم والأكبر تقع - من بين المؤسسات التربويّة والتوجيهية - على الأسرة، فالأب والأم هما المسؤولان بالدّرجة الأولى عن توجيه أولادهم إلى الاهتمام بوقت فراغهم وقضائه في النّافع من الأعمال، وعدم تضييعه في توافه الأمور وما لا نفع فيه ولا فائدة وما يعود عليهم بالضّرر، ويكون دور باقي المؤسسات التربويّة مكمّلًا لدور الأسرة ومساعدًا له.
وهذا الدّور التوجيهي من الأسرة هو من مسؤولياتها التّربوية المهمة، إلاّ أنّ بعض الأسر وللأسف الشّديد تقصّر في القيام بهذه المسؤولية، إمّا لجهل من الوالدين بأهمية هذا النوع من التوجيه، أو لتخليها عن مسؤوليتها التربوية برمتها، أو لعدم وجود الوقت الكافي عند الوالدين للقيام بدورهما التربوي على أكمل وجه، أو لغيرها من الأسباب كفقد الطفل لوالديه حيث لا يجد اليتيم الموجه والمربي له، لا سيما مع تقصير بقية المؤسسات في القيام بهذا الدور. فأيَّ تقصير من الوالدين في تربية أبنائهما يضعهما أمام مسؤولية شرعيّة وقانونيّة واجتماعية وأخلاقية، وسيندمان في حالة ما إذا انحرف الأبناء في وقت قد لا ينفعهما النّدم. وكثيرًا ما نسمع تذمّر بعض الآباء والأمهات من تمرّد وانحراف أبنائهم مع أنّهم قد يكونون هم السبب الأوّل في ذلك التمرّد والانحراف.
وبما أنّ السبب الرئيسي لكل انحراف عند الإنسان شابًا كان أم غيره هو ضعف الوازع الدّيني، فعلى المؤسسات التّربوية القيام بمسؤولية التّربية الإيمانية للشّباب لخلق الوازع الدّيني لديهم وتقويته في نفوسهم، والمراد بالوازع الدّيني تلك الحالة التي تكون عليها النّفس الإنسانية؛ من قوّة الإيمان والرّفعة في درجة التّقوى بحيث يكوّن ذلك عنده جهازًا مناعيًّا يمنعه من الانجرار صوب المخالفة الشّرعيّة، والاتجاه لفعل الجريمة والتمرّد على القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة، فيعيش الالتزام بتعاليم الشّرع الشّريف وتوجيهاته، ويلتزم بالقوانين الموضوعة لمصلحة النّاس، ويتقبّل عادات وأعراف مجتمعه الحسنة، فيبتعد عن كلّ ما من شأنه أنْ يعود عليه بالضّرر أو يسيء إلى الغير، فردًا كان هذا الغير أو جماعة أو مجتمعًا.
والمسؤولية في ذلك -كما في توجيه الأبناء إلى استثمار وقتهم في المفيد والنّافع - تقع بالدّرجة الأولى على عاتق الأسرة، فالوالدان مكلفان بتربية أولادهم وتنشئتهم ليس جسميًّا فقط بل روحيًّا أيضًا فـ «ينبغي للأب تربية ولده تربية يصلح بها في دينه وبدنه وخلقه ... كما يلزم إبعاده - بالتّفهيم والتّعليم وبالحكمة والموعظة الحسنة - عن آداب الكفر والجاهلية والانحلال والرّذيلة. ولا ينبغي التهاون في ذلك والتفريط فيه، ففي ذلك فساده وفساد المجتمع وانحلاله» 7 8.
- 1. a. b. هادي النجفي، موسوعة أحاديث أهل البيت 1/564.
- 2. وقت الفراغ سلاح ذو حدّين، فأن يجد الإنسان وقتًا من الفراغ يستثمره إيجابيًّا لا سيما فيما ينفعه في آخرته هو نعمة عظيمة عليه، ولذلك ورد في الرّواية عن النبي «صلى الله عليه وآله أنّه قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصّحة والفراغ» «الدّر المنثور 8/416» إلاّ أنّه من جهة أخرى يكون نقمة على الإنسان إذا أضاعه فيما ما لا نفع فيه أو فيما يكون أثره عليه سلبيًّا.
- 3. الشباب العرب من المغرب إلى اليمن، أوقات الفراغ، الثقافات والسياسات، صفحة 13.
- 4. جريدة الرؤية الالكترونية، الثلاثاء 6/01/5102م، مقال بعنوان: «التفحيط خطر محدق بأرواح الشباب.. والحل في التوعية وتغليظ العقوبات».
- 5. هناك اختلاف في تحديد مرحلة الشباب من عمر الإنسان، فحددها البعض بالفترة من 51 – 52 سنة، وبعض آخر من 31 – 03 سنة، وهناك من حددها بالفترة من البلوغ وإلى بلوغ المرء سن الأربعين.
- 6. الصّدوق، الخصال، صفحة 352.
- 7. محمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 3/06 - 16.
- 8. المصدر: كتاب محاضرات في الدّين والحياة ج 2، للشيخ حسن عبد الله العجمي.