الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

كربلاء الحسين ثورة من اجل الاسلام

نقاط عديدة تستوقف قارىء مقالة "محمد السماك" المنشورة في جريدة "السفير" المؤرّخة بتاريخ 16/محرم/1418هـ/الموافق 22/أيار/1997م/، ونرى أنّه لا بدّ من الإشارة إليها والردّ عليها بشكلٍ موضوعي بعيد عن كلّ أنواع الحساسية والتعصّب البغيض غير اللائق بالمسلم الملتزم المفترض فيه أن يبني كلامه واستنتاجاته وفق المقاييس الشرعية ووفق قواعد الحوار المأمورين بها بقوله تعالى: ﴿ ... وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... 1 و ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ... 1.

يعتبر الكاتب أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو شهيد الإسلام، وهذا الرأي هو الصحيح الذي لا محيص عن القول والإلتزام به، لأنّ نهضة الحسين (عليه السلام) لم تكن مذهبية ولن تكون كذلك في يومٍ من الأيام، وها هو شعار النهضة تلك لا زال مدوّياً (... إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...). إلّا أنّ النتيجة التي استنتجها صاحب المقالة لا تنسجم مع قوله بإسلامية الشهادة، وذلك لأنّ النتيجة عنده هي مجرّد استحضار المأساة والإستغراق في الحزن، وإطلاق العنان لمشاعر الأسى والغضب، وترميم خنادق القتال وإعادة شحذ السيوف استعداداً للمعركة والتحريض على الحرب وغير ذلك، الواضح منه أنّ إحياء عاشوراء كما يحاول أن يوحي صاحب المقالة إنّما هي دعوة مفتوحة للفتنة بين أبناء الأمة الإسلامية وإيقاعها في صراعاتٍ جانبية تستنزف قواها وإمكاناتها، وتورث الحقد والبغضاء بينهم، أو كأنّه يريد الإيحاء بأنّ الذين يحيون كربلاء يحمِّلون الأمة الإسلامية الآن مسؤولية وزر قتل الحسين (عليه السلام).
فهل أنّ إحياء عاشوراء يستبطن كلّ ذلك الحجم السلبي من المعاني والدلالات؟ وهل هذا هو الذي تعلّمناه من عاشوراء الحسين (عليه السلام) وفق فهم الكاتب؟!
إنّي لأتعجّب كما هو حال الكثيرين أن يكون النظر إلى عاشوراء بهذه النظرة السطحية البعيدة عن منطق الحق والعدل والصواب.
ولهذا نودّ تصحيح فهم الكاتب لما تعلّمناه من عاشوراء الشهادة والتضحية والفداء التي ميّزت خط النبوات والرسالات الإلهية عامة، ولم تكن علامة مميزة في مسيرة وتاريخ الدين الإسلامي فقط.
أولاً: إنّ إحياء ذكرى عاشوراء هو للعبرة والإتّعاظ وتوضيح الدرس العملي والتطبيق لآيات كتاب الله الآمرة بالثورة على الحاكم الظالم ولو من موقع إسلامه العام، فمجرد كون الحاكم مسلماً لا يمنع من القيام ضدّه لتصحيح مسار الأمور عندما ينحرف بها عن جادة الإستقامة والهداية والعدل والحق، ولذلك نرى القرآن يصرّح بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو الكافر والفاسق والظالم. وعليه فالحسين (عليه السلام) أراد بنهضته أن يسنّ سنة حسنة في الإسلام ليقتدي به كلّ المسلمين في العصور اللاحقة عندما يعيشون أوضاعاً كالتي كانت موجودة في عصره حيث انتشر الظلم وعمّ الفساد الأمة الإسلامية بسبب فساد الحاكم وانحرافه، وكلمات الحسين (عليه السلام): (وعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد) الذي وصفه سيد الشهداء بقوله: (... ويزيد رجلٌ فاسق، شارب للخمر، قاتل للنفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله). ولهذا فثورة الحسين (عليه السلام) هي ثورة من أجل الإسلام وإصلاح مسيرة الأمة إلى ما كانت عليه زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثانياً: إنّ الذين يقيمون مجالس العزاء عن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) لا يدَّعون احتكار الذكرى لهم وحدهم، بل يرون أنّ هذه الذكرى هي ملكٌ للأمة كلّها وليست لفئةٍ خاصة أو أبناء مذهبٍ معين، وهم لا يمانعون، بل يتمنّون ويشجّعون على أن يلتزم أبناء الإسلام جميعاً بإقامة شعائر كربلاء لما في إقامتها من الفوائد المتعدّدة القادرة على نشر الوعي بالتاريخ وبالواقع المعاش، لأنّ عاشوراء مدرسة إسلامية متكاملة يتعلّم الداخل إليها الكثير ممّا يحتاجه من مفاهيم وقواعد وأنماط سلوك، وتشحن نفسه وروحه بالقوة المعنوية الكافية لمواجهة الحالات الصعبة في أيّ واقعٍ يعيش فيه، ومن خلالها يصبح الإنسان المسلم مستعداً للجهاد والدفاع عن الإسلام وقيمه في مواجهة الأعداء.
ثالثاً: إنّ إقامة عاشوراء لا تحمل عنصر إدانة لأحدٍ من المسلمين، لا في هذا الزمن، ولا في الأزمنة السابقة، إذ كيف يحق لأحدٍ أن يدين شخصاً أو فئة بجريمةٍ اقترفها شخص أو فئة أخرى؟! ألا تكون هذه الإدانة غير الواقعية مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ... 2؟ نعم إحياء عاشوراء يحمل إدانة لمن ارتكبها وهو يزيد بن معاوية ومن عاونه ممّن باعوا دينهم وإسلامهم للحفاظ على الحياة تارة، أو للطمع في مناصب دنيوية تارةً أخرى، وكيف يدين أحد المسلمين في الوقت الذي يدعو فيه الذين يحيون ذكرى عاشوراء إلى وحدة الأمة ورصّ صفوفها وإلى تعاون دولها وشعوبها من أجل حفظ حقوقهم واستقلالية قرارهم وتوجّهاتهم وتحرير إرادتهم من سيطرة القوى الإستكبارية في العالم التي تنتهك حرمات الأمة الإسلامية ومقدّساتها وتنهب ثرواتها وخيراتها؟!
رابعاً: هناك بعض المغالطات الفكرية والتاريخية نرى أنّه لا يمكن التجاوز عنها ويجب الردّ عليها وهي:
أ – مفهوم الإجتهاد في العمل السياسي: وهو مشروطٌ بضوابط جلب المصلحة العامة للأمة أو إبعاد المفسدة العامة عن الأمة، فمثل هذا الإجتهاد هو الذي يؤجَر فاعله ويُثاب عليه، وأمّا قتل الحسين (عليه السلام) فهو جريمة نكراء بكلّ ما للكلمة من معنى، قام بها حاكم ظالم لا يريد للإسلام ولا للأمة الخير، وكان يهدف إلى طمس معالم هذا الدين وإرجاع الأمة إلى عصور الجاهلية، فهل مثل هذا المجرم المحارب لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولدينه بإجماع الأكثرية الساحقة من علماء الأمة بمذاهبها كافة يستحقّ أجراً كما يحاول صاحب المقالة من خلال الإدعاء بأنّه اجتهد فأخطأ؟! إنّنا نتصوّر أنّ الأمر شطحة قلم من الكاتب ولا يعتقد ذلك حقاً وصدقاً.
ب – إنّ دموع المأساة الحسينية لم تحجب عنّا ولن تحجب في يومٍ من الأيام رؤية مبادىء العلم السياسي الذي أرسته عاشوراء في مسيرة الأمة الإسلامية، فمبادىء العلم السياسي الإسلامي قائمة على موازين الحق والعدل الإلهيين الواضحين جداً في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يحتاج الإنسان إلى الكثير من الجهد والعناء لاستنباط تلك المبادىء التي أوضح الإمام الحسين (عليه السلام) الكثير منها في نصوصه التي أوردها تاريخنا الإسلامي كأسبابٍ لنهضته المباركة وهي المعتبرة على أنّها الترجمة الصادقة للآيات ولسنة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ج – إنّ الإدعاء بأنّ الحركة السياسية للإمام الحسين (عليه السلام) هدفت إلى التغيير من دون أن يكون لديها أيّ بديل، فهذا قولٌ مرفوض وغير مقبول من كاتب المقالة، إذ كيف يزعم أنّ النهضة الحسينية لم تحمل بديلاً في الوقت الذي يوضح الحسين (عليه السلام) أنّ الهدف هو "الإصلاح" و"السير بسيرة أبيه علي (عليه السلام) وجده النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). فالبديل عند الحسين (عليه السلام) عن طريقة الحكم – التي أراد معاوية إرساءها من خلال إجبار الناس على مبايعة ولده يزيد وتحويل الخلافة من منصبٍ إلهي إلى منصبٍ دنيوي ملكي متوارث – هو (إعادة الخلافة إلى أصولها وبيان فساد وبطلان المنصب الملكي لحاكم المسلمين ووليّهم) و(إصلاح مسيرة الأمة بعد التخريب الذي طرأ على حياتها بسبب المشروع المعادي لمشروع الأمة والذي كان يحمله معاوية وكان يزيد يسعى لإكماله بعد أبيه، وكان يتصوّر أنّ الحسين (عليه السلام) هو العقبة الواقفة في الطريق نحو الوصول إلى الهدف النهائي، ولذا كان لا بدّ من قتله ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة.
وعليه فمن كلّ ما سبق يتّضح أنّ عاشوراء الحسين (عليه السلام) هي التي أرست الحدّ الفاصل بين الحق والباطل، وهي التي علّمت المسلمين ولا زالت إلى الآن معاني التضحية والفداء والإيثار دفاعاً عن دين الأمة وكرامتها وعزّتها، وهي التي تشحن نفوس المسلمين اليوم بكلّ معاني القوة والقدرة على الوقوف في مواجهة الإستكبار العالمي بقيادة أمريكا، وعلى محاربة الكيان الغاصب المزروع في قلب عالمنا العربي وعالمنا الإسلامي الكبير.
إنّ كربلاء تنادي المسلمين جميعاً لكي يحيوا شعائرها بغض النظر عن مذهبهم، وإحياؤها ليس حكراً على فئةٍ دون أخرى ولا يحمل إدانة لأحد، وإحياء عاشوراء الحسين (عليه السلام) هي التعبير العملي عن استعداد جماهير الأمة للدفاع عن إسلامها وقيمها في مواجهة كلّ حاكمٍ ظالم يريد أن يصادر قرار الأمة ويستعبد شعوبها سواء أكان هذا الحاكم الظالم متظاهراً بالإسلام أم لم يكن مسلماً أصلاً.
وأخيراً فإنّ عاشوراء الحسين (عليه السلام) بشعاراتها الإسلامية التي تتجاوز المذاهب جميعاً هي القادرة على توحيد جسد الأمة وتوحيد شعاراتها في مواجهة الظلم الإستكباري والتعنّت الصهيوني، ومن الخطأ الفادح تحميل عاشوراء وإحيائها مسؤولية التشرذم والتفكّك الذي تعاني منه الأمة الإسلامية في حاضرها الذي تعيش. والحمد لله ربّ العالمين3.