الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

وجوب الجهاد

قبل ذكر بعض الآيات التي تدلّ صراحةً على وجوبه، من المفيد الإشارة إلى أن هناك فرقًا بين أصل التشريع، وبين فعلية التكليف به، فحتى لو اختلف العلماء والمفسّرون في زمن التكليف الفعلي به للمؤمنين فإن هذا لا يؤثر في كونه تشريعًا ثابتًا على أيّ حال، وأن ضرورته ليست محل نقاش. ولعلّ الاعتماد في ذلك على ما هو مركوز في الطبيعة البشرية والحياة الاجتماعية من ضرورة المدافعة، وبذل الجهد في سبيل طرد قوى الشر المعيقة لحركة الرسالة، أو للوصول إلى الأهداف الإلهية السامية في بناء الإنسان المجتمع، أو في الحدّ الأدنى الذي لا يقبل الإنكار والتجاوز وهو الدفاع عن الحقّ وأهله وفي نصرته. وهذا يصلح مقدمةً ضرورية وتوطئةً لازمة للتشريع وللقيام به، وأشارت بعض الآيات إلى ذلك كقوله تعالى: ﴿ ... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ... 1.

وقوله تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ... 2.

وقوله تعالى: ﴿ ... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ... 3.

وإلى ما هنالك من آيات ترشد العقل البشري والإنسان الرسالي إلى القيام بأمر وفعل للوصول إلى تحقيق الأهداف السامية.

وأمّا الآيات الواضحة والصريحة على وجوبه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ 4.

وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ... 5.

وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ... 6.

وإلى ما هنالك من آيات سيظهر بعضها معنا في مقام ذكر بعض الخصوصيات بحيث لا يبقى أيّ مجال للشك في هذا الوجوب الذي توجّه إلى النبي مباشرة، وإلى المؤمنين الذين يتبعونه. ولعلّ الذكر المطول أحيانًا في القرآن لسير الأنبياء وجهاد بعضهم قتالًا ومواجهة لعتاة الكفر، فيه تربية واضحة للمؤمنين أن هذه الفريضة لا بدّ منها في سبيل الدفاع عن الحقّ والرسالة كما سيأتي.

ومن الأمور اللافتة في القرآن الكريم حينما يتحدّث عن الجهاد، تذكر مجموعة من خصوصيات، أكتفي بذكر بعضها:

الخصوصية الأولى: إن الجهاد لاعتباره قتالًا وعملًا عسكريًّا وهو يستدعي عادةً التجهيز والإعداد والتدرب، ويستدعي حمل السلاح وإبراز القوة ومظاهرها، وصولًا إلى الغلبة والقهر للعدو، اقتضت الحاجة والضرورة أن يحدد عنوانٌ عريض، وأن يرسم خط واضح لأتباع الإسلام كي لا يضلوا أو يصابوا بالغرور أو الركون إلى أهداف ومطامع دنيوية من سلطنة وهيمنة وغير ذلك من تجليات مظاهر القوة، وبالتالي الوقوع في مفاسد هي في الأساس مرفوضة في الإسلام، بل إن غاية الجهاد هو دفع هذه المفاسد، فلا يصح أن يشرع الله تعالى تشريعًا للمسلمين يوقعهم فيه أو يجعلهم في الحد الأدنى على هذه الطريق، والمطلوب هو تحصينهم وإلفاتهم من مغبة الوقوع في أمرٍ هم في معرضه وليسوا في منأى عنه. وهنا لا أقصد الأهداف التكتيكية أو حتى الاستراتيجية من نفس القتال، فهذا أمر آخر سنذكره أيضًا لاحقًا، بل المقصود هو وضع إطار عام وأساس لازم لا ينفك عن عملية ممارسة القوة، ودونها سيكون القتال معركةً وجهدًا كما يمارس الآخرون أصحاب المطامع الدنيوية والسلطوية، وهذا العنوان هو (سبيل الله)، وهذا ما نجده واضحًا في الآيات، ولعل كثرة التأكيد عليه لأهميته وضرورته حتى لا ينسى المسلمون فيتيهوا كما تاهت أمم من قبلهم، ولهذا نجد أن أي قتال في الإسلام لا يكتسب مشروعيةً ما لم يكن في سبيل الله، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية والعملية المبنية على أساس هذا الاصطلاح والمفهوم الإلهي المقدس (هو الجهاد)، وبهذا يمكن أن نفرق في عالمنا بين جهاد وآخر. وهنا لا أشير فقط إلى الهدف العسكري، بل في الأصل إلى الدافع الذي ينبغي أن يكون عند الفئة التي تحمل السلاح وتعد العدة للقتال والنزول إلى الميدان، هذا هو العنوان العريض والذي فيه أيضًا تفصيل وطبقات ومستويات قد نوفق لبيانها لاحقًا.
الخصوصية الثانية: التي نراها في بعض الآيات هي التذكير الدائم بالدافع الإيماني بمعناه الخاص، وليس من الصدفة أن يكون الأمر بالجهاد في سورة المائدة لاحقًا للأمر بالتقوى والأمر بابتغاء الوسيلة إلى الله.

فإن في ذلك وضعًا لهذا المفهوم في سياقه الطبيعي، وهو الوصول إلى القرب الإلهي. وفي ذلك تنزيه للنبي والمجاهدين المخلصين معه من الانسياق إلى ميل أو رغبة أو تشفٍّ أو أي شيء آخر، وأنا هنا لا أقصد أن المجاهد لا يدخل هذه الأمور في حسبانه، لكن المطلوب هو عدم إدخالها كلما سرى منها شيء في الفعل بما سينقص حتمًا من مستواه ودرجته، إذ ليس كل المجاهدين على حد سواء في الدافع، وليس كل من سار في عداد ركب المجاهدين لازم التقوى وابتغى إلى الله الوسيلة، فمفاد الآية كما ذكر البعض هو أن الجهاد المطلوب أن يكون من هذا القبيل، وهذه وظيفة كل مسلم.

الخصوصية الثالثة: إن اتّباع هذه الفريضة ليس من الضروري أن يكون مستساغًا لكل أحد، وليس من الضروري أن ينجذب كل المسلمين إلى هذا التكليف لاعتبار مشقته وتعبه، إلا أن القرآن الكريم مع إشارته هذه فسح الآفاق للمسلمين بضرورة اتباع هذا الحكم، والمصالح يقدرها هو؛ إذ إنه الأعلم بها وأنتم لا تعلمون: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ 7.

عادةً ضعاف الإيمان يترددون ويخافون ويحسبون حسابات ضيقة بحسب ضيق عقولهم وصدورهم، إلا أن المصلحة الأكيدة في خوض هذه الغمار لأنها إرادة الله وهو الذي يعلم.

الخصوصية الرابعة: هي زيادة اقتران الجهاد في القرآن الكريم (بالمال والأنفس). وهذا واضح في المعنى والمغزى والعلاقة الوطيدة بين بذل المال والنفس في المعركة، إذ دأب المعارك هو إزهاق الأرواح وتبدد الأموال، وفي ذلك تربية للمجتمع الإسلامي حينما يخوض غمار الجهاد عليه أن يوطن نفسه لبذل الأنفس وللتضحية بالمقدرات المادية والاقتصادية، وعليه فلا مجال للاعتذار عن القتال تارةً بحفظ النفس، وتارةً بحفظ مظاهر المال وتشعباته، ولعل الجمع بين الأمرين يؤكد هذا المعنى بل ويطلبه، وإنما ذلك لكون غاية الجهاد أسمى وأرفع من المال والنفس، وأنه من دواعي العجب من بعض المسلمين كيف يفرقون بين المفهوم ولازمه والقرآن يؤكد على عدم صحة ذلك 8.