مجموع الأصوات: 8
نشر قبل 4 أشهر
القراءات: 471

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الإمداد الغيبي حتمي في الجهاد

من خلال ما ذكرنا سابقًا يتضح لنا أن الجهاد الذي أوجبه القرآن هو ليس فريضةً فردية يقوم بها الإنسان المؤمن لإبراء الذمة فحسب، وإنما هو مشروع متكامل البنية في إطار تحقيق هدفٍ إلهي تمت رعاية كل جوانبه بدقة متناهية لينخرط جميع المؤمنين فيه، وبيّنا أن شروط تحقّق هذا الجهاد لازمة وضرورية وهي باختصار:

  • عناصر الدافع والمنطلقات (التقوى… ابتغاء الوسيلة إلى الله… ).
  • عناصر ملازمة الحق والصراط المستقيم (جهاد في سبيل الله… )، وهذا له دورٌ أساسي في تشخيص المعركة التي تشارك فيها.
  • عناصر الهدف الشرعي والإلهي بحسب الأهداف التي ذكرناها قبل قليل.
  • عناصر الاستعداد والاقتناع بإلقاء كل الإمكانيات والطاقات في المعركة الإلهية ﴿ ... وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ... 1.

والسؤال المطروح هنا هل إن توفر هذه العناصر كاف للمشروع في أداء هذه المهمة والإتيان بهذا التكليف؟ للوهلة الأولى، يبدو الأمر كذلك، لكن ما زلنا لغاية الآن نتحدث عن المقدمات اللازمة لتشخيص طبيعة الجهاد كما فهمناها من القرآن الكريم، أما نفس خوض غمار الجهاد فإنه يحتاج إلى عناصر إضافية هي أيضًا تخضع لسنن وقوانين إلهية لم يغفلها القرآن الكريم وفصلها، سواء في تجارب الأنبياء(ع)، أو في تجربة الرسول الأكرم (ص) ومن معه من المسلمين، وأما هذه العناصر فهي:

تهيئة الأسباب العادية والمادية للقتال:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ 2.

وحيث إن الهدف هو رضا الله، وهو الذي وعد النصر والتأييد، لا ينبغي أن يقع المسلمون بالوهم، وأن النصر طالما آتيهم فلِمَ القوة والاستعداد، وهذا إخراج لمفهوم الجهاد عن طبيعته القتالية فضلًا عن كون التهيؤ والأخذ بأسباب القوة هو شرط ضروري للقيام بالواجب، وبالتالي فإن المطلوب هو حشد كل الطاقات والإمكانيات والخبرات العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية والاقتصادية للدخول إلى المعركة والمواجهة. والمطلوب هو القتال والضرب كما في قوله تعالى:﴿ ... فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ 3. وعليه، لا يجوز التخلف أو الفرار أو الضغف في المعركة، ذلك لقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 4.

أو كما في سورة التوبة:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ... 5.

الغلظة، والشدة والحزم والخبرة كلها عناصر ضرورية ينبغي توفرها في المعركة، فلو أن عليًّا (ع) لم يكن بهذه الشدة والقوة كيف سيهابه المشركون؟ وكيف سينتصر على كل الفئات التي واجهها في ميدان المعركة، فضلًا عن ضرورة توفر كل العناصر اللازمة من خطط وأساليب تناسب المعركة وطبيعتها؟ وانظروا إلى التسهيل الإلهي حيث قال:﴿ ... مَا اسْتَطَعْتُمْ ... 2 ولم يطلب توفير الإمكانيات والخبرات الهائلة، المطلوب أن تبرز الصدق في إيمانك بالمعركة، والحق الذي تطلبه من خلال إلقاء ما عندك في ميدان المعركة.

الصبر في المعركة: إذا كان الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فإن الصبر في الجهاد هو روح النصر، إذ تجتمع فيه خصال الثبات والعطاء والتسليم، فلا ينبغي للذي يمارس فريضة الجهاد أن يستعجل النصر، إذ إن الله سبحانه جعل في القتال امتحانًا للإنسان وبلاءً من جهة، وجعله طريقًا طبيعيًّا وعاديًّا في دفع الباطل والفساد، ولو لم يكن المطلوب تحقيق النصر على أيدي المجاهدين لكان بالإمكان الإتيان بالغلبة عن طريق المعجزة دفعةً واحدة، وهذا لا يحقق الغرض الإلهي.

قال تعالى:﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴾ 6.

لذا نجد أن الصبر في الجهاد عنصر ضروري لاكتمال شكله وواقعه، وعلى هذا جرت سيرة الأنبياء (ع) ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ 7.

﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ 8.

﴿ ... وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ... 9.

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ 10.

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ 11.

﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ... 12.

من الطبيعي أن الفئة التي تجاهد في سبيل الله، وفي سبيل إحقاق الحق، ستواجه الحصار والأذية والتشكيك وتثبيط العزائم وكل أنواع التنكيل من الباطل وأهله، وكل معركة ستواجه شرًّا ومكروهًا بحسب أهدافها وبحسب طبيعة العدو وسطوته واستكباره، ومن البديهي أنه لا يمكن أن تحصل المدافعة والمواجهة دون صبر وتحمل.

العنصر الثالث والضروري في الجهاد هو التوكل على الله

قال تعالى:﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ 13.

﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ 14.

﴿ ... وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا 15.

بعد كل المقدمات المعنوية والمادية نصل إلى عنصر الحس في الجهاد، والذي كان أيضًا حاضرًا في جهاد الرسول وكل الأنبياء (ع)، إذ لا يجوز في لحظات احتدام المعارك أن تنسى الله وقدرته المطلقة والتي جعلها على أي حال في نصرة أهل الحق طالما هم ملتفتون ومتوكلون عليه، أما إذا نسوه ينساهم ويكلهم إلى أنفسهم وإلى المعادلات المادية الطبيعية، ومع توفر هذا العنصر تكتمل الشروط اللازمة للجهاد، الذي أراده الله تعالى في كل مراحله وتكوناته، وهنا يكون النصر لازمًا وحتميًّا، وهنا يكون الغيب في خدمة المجاهدين الصابرين الصادقين فانظروا إلى الآيات الآتية:

﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ 16.

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 17.

﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ 18.

﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ 19.

﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ 20.

﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ 21.

ومن تجليات التوكل اليقين والثبات في المعركة، يقول أمير المؤمنين (ع): “ومثلي لا يهدد بالحرب وأنا على يقينٍ من وعد ربي”22. ومن تجلياته أيضًا الإكثار من الدعاء لاستنزال هذا الدعم وهذا التأييد، فانظروا إلى قوله تعالى:﴿ وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ 23.

وقوله تعالى:24.

﴿ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾ 25.

﴿ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ 26.

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ 27.

لغاية الآن، ذكرنا نزول النصر الإلهي على المؤمنين المخلصين، لكن أين هي القاعدة والسنة وأين هي الحتمية؟ فإن في قوله تعالى:﴿ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ 28، أو قوله تعالى:﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ... 16، كل الآيات التي ذكرناها تتحدث عن حتمية هذا النصر وسياقها وعد إلهي، فهل نفهم من مجموع الآيات أن أي جهاد توفرت فيه العناصر المذكورة ستكون نتيجته النصر الدنيوي، حتى لا نضطر إلى التأويل أو التوسعة في المفهوم كما حاول البعض أن يقول: إن المقصود هنا هو أعم من الفلاح الدنيوي أو الأخروي؟

بعد التتبع في الآيات الكثيرة التي تحدثت عن النصر وجدت موردين أشارا إلى وقوع هذه الحتمية بسياق جملة شرطية وهما:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ 29.

﴿ ... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 30.

إذن، ظهرت حتمية نزول النصر في حال نصرة الله، وهذا وعد لا يختلف ولا يتخلف. ويبقى الكلام كيف نتحقق من أننا ننصر الله… فيا ترى كل العناصر التي ذكرناها كافية أم أن هناك إشارة أوضح لطبيعة عنصر أو شرط؟ هنا أعود بكم إلى التوكل على الله ودرجاته فإنه في درجةٍ من الدرجات يستحيل أن لا يتحقق هذا النصر الإلهي، لأن في ذلك نصرةً واضحة وكاملة لله سبحانه. ودققوا في الفرق بين الآيات السابقة التي ذكرت مطلب النصر… أفرغ علينا صبرًا وانصرنا على القوم الكافرين… ربِّ انصرني على القوم المفسدين… متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب…

ثم دققوا في قوله تعالى في سورة الأنفال:﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ 31. ودققوا جيدًا في قوله تعالى في سورة البقرة لنصل إلى النتيجة الحاسمة والنهائية:﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ 32.

فبقوله:﴿ ... أَنْتَ مَوْلَانَا ... 32 هذا المستوى من التولي لله تعالى استحق بعده الدعاء بواسطة (فاء) أي الترتب، وليس الواو أي الدعاء فحسب، وبالمقارنة مع الآية السابقة ﴿ ... اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ 31 ليس صدفة أن يقرن (المولى) (بالنصير). فكأن – والله العالم – يدور النصر في تنزله مدار التولي، ونفي كل الوسائط الأخرى. وهذا ما يمكن أن نعبر عنه (بالجهاد بالله)، وليس (الجهاد في الله) فحسب الذي يهدي السبيل ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... 33، فإنه فرّق بين الاستقامة على خط الله، وبين القتال في المعركة ومواجهة كل الأعداء بالاعتماد فقط على الله ونفي سائر الوسائط والأسباب.

هذا المستوى من الجهاد تلزمه ولاية حقيقية وكاملة لله سبحانه، والذي يصل إلى هذا المستوى هم الفئة التي ذكرها القرآن الكريم في سورة المائدة ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ 34.

وهذا ما يوضح المراد الإلهي بشكل أفضل في سورة المجادلة:

﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 35.

تأتي هذه الآية في سياق أسلوب في الدعوة إلى الجهاد موجه إلى الكاره لأمر الجهاد، فالله تعالى يخاطب هذه الفئة معتمدًا على أساس إيمانهم به وعقيدتهم بأنه يعلم وهم لا يعلمون، ليقول لهم بعد أن يبين لهم أصل التكليف ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ... 36 بأن ما ترون فيه شر لكم قد يكون في حقيقة الأمر خير، والعكس صحيح، فالتزموا بأمري (القتال) لأنني أعلم وأنتم لا تعلمون هذا الخير أو هذا الشر.

نجد في الآية نمطًا جديدًا في التعاطي مع الدعوة إلى الجهاد، يخاطب فئة من الذين تخطوا موضوع كراهة القتال، وهم الذين تعلقوا بالدنيا وأثقالها، فاحتاجوا إلى توضيح أكثر وأسلوب آخر، فجاء قوله تعالى ليدعوهم إلى ترك متعلقات الدنيا، خفت أو ثقلت هذه المتعلقات، ويعدهم تعالى بالخير الذي يترتب على المشاركة في الجهاد، والذي هو أفضل من خير الدين ﴿ ... ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ... 1.

نجد في هذا الأسلوب أن الله تعالى لم يكتفِ بالإشارة إلى الخير المتوقف على الجهاد، بل حدده على أنه هو الجنة، والتي هي جزاء المجاهدين، لما في ذلك من أثر في النفوس.

الخطاب في الآية يشير إلى صنفين غير متساويين من الذين استجابوا لأمر الجهاد، فأولئك الذين لبّوا نداء الجهاد قبل الفتح هم أفضل من الذين استجابوا بعد الفتح، وإن كان لكل أجره، ولكنه ليس بنفس الدرجة بحسب الآية.

في هذه الآية بيان واضح بأن المؤمنين الذين لم يرتابوا هم المجاهدون، وأن غير المجاهدين هم الذين يشوبهم الشك والارتياب في إيمانهم، وكأن في الآية حدًّا فاصلًا، وهو تلبية نداء الجهاد الذي هو صدق في الإيمان، وبين عدم التلبية، والذي هو عدم الصدق في الإيمان.

نرى في هذه الآيات مجموعة من الأساليب في الدعوة إلى الجهاد تتعدد بتعدد مستويات وحالات البشر، حيث إن كل مستوى من هذه المستويات هو بحاجة إلى أسلوب في الإقناع، ولأهمية الجهاد جاءت هذه الأساليب 37.