الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

عاقبة رفض الجهاد

حيث إن الجهاد ضروري، وحيث إنه يقتضي التضحية والتخلي عن مكاسب ومغريات دنيوية، وحيث إن المجتمع الإسلامي ليس سواءً في تقبل هذه الفريضة والتعاطي معها بإيجابية، نجد أن الجهاد يصنف المسلمين إلى صنفين:

الصنف الأول: الأتقياء، الخلص، المحبون لله والرسول والذين ينساقون للأمر الإلهي، ويعتبرون الجهاد طريقًا يسلكونه للوصول إلى الجنة والنعيم والرضوان، وهم يمنون أنفسهم بالقتال وساحته، ويتراكضون للدفاع عن الإسلام والدين والأمّة. هذه الفئة ربما يناسب الحديث عنها أكثر في موضوع الشهادة، إذ إن من خصوصيات هذه الفئة هو حب الجهاد والتعلق به، لأنه باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو درع الله الحصينة وجنته الوثيقة.
الصنف الثاني: هم الذين لا ينقادون رأسًا إلى التكليف، وهم أيضًا على أنحاء: فمنهم الذي كره القتال، فالله تعالى أرشده بأسلوب محبّب ولطيف اعتمادًا على عقيدتهم وإيمانهم بأنه أعلم منهم كما في آية ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ... 1. وهناك نحو آخر من الذين تعلقوا بالدنيا وأثقالها، احتاجوا إلى توضيح أكثر، وعليه تكون عندنا درجات في التعاطي مع كل هذه الأصناف.
﴿ ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 1.
﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ 2.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 3 .
﴿ ... لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 4.
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 5.

مع غيرها من الآيات الكثيرة والتي تبيّن فضل الجهاد والمجاهدين، وفي ذلك ترغيب للمؤمنين بالقيام بهذه الفريضة، وإلى ما يترتب عليها من نتائج كبيرة وخير عميم لا ينبغي أن يضيع، إلى أن يصل البيان الإلهي إلى حدّ جعل الإيمان والصدق مقرونًا بالجهاد في سبيل الله، وفي ذلك توطئة للأحكام التي ستأتي في حال التخلّي عن الجهاد، ومنها:

عدم المساواة بين المجاهد وغيره

﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا 6.

فهذا حكم إلهي واضح داخل مجتمع المؤمنين، إذ لا يجوز مساواة المجاهد والمضحي من أولي الضرر مع غيره من المؤمنين، وهذا ليس تعنيفًا طبقيًّا بحسب الغنى والفقر، بحسب العلم والجهل، بحسب السلطة وغير ذلك… إنه تقسيم مبنيّ على الطاعة والتكليف والنصرة للحق بالمال والنفس، إذ جعلهم أفضل درجة وأعلى مقامًا وآتى المجاهدين أجرًا عظيمًا. ولعل هذا الأجر هو الخير الكثير الذي تتضمّنه الآيات: ﴿ ... ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ 2، فكأنّ الله تعالى يريد أن يقول لهم وإن كنتم لا تعلمون، فهذان هما (الدرجة) و(الأجر العظيم). ومن المفيد إكمال الآيات لنرى الرحمة الإلهية الخاصة بهم حين الموت، وكأن هذا هو المراد من قوله تعالى في سورة البقرة:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ 7. وقوله تعالى:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ 8.

وقوله تعالى:﴿ ... فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ 9.

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ 10.

التهديد لتاركي الجهاد، والتلويح بالعقاب الإلهي، وأنهم في عداد الفاسقين الذين يفتقدون الهداية الإلهية، وما يترتب على ذلك من انحلال وفجور وفسوق وضياع للأمانة الإلهية.

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ 11.

وهنا أمور:

ترك الجهاد ليس معناه التخلي عن فريضة لازمة كأيّ عبادةٍ أخرى، وبالتالي فهو ليس في عداد المعاصي والسيئات التي ربما يفتش المسلم عن كيفية تعويضها بحسناتٍ أخرى لتمحوها وما شاكل. فإن جمع حب الله والرسول والجهاد في عبارةٍ واحدة دلالة على عظمة هذه الفريضة والتعلق بها، وليس فقط الإيمان والقناعة كما أسلفنا في بعض ما مر، بل المراد هو الحب والتعلق القلبي بما يستتبعه من امتثال عملي، وإن تخلف أي واحد من هذه الأمور الثلاثة لا يمنع من تحقق التالي، وهو التربص، محل التهديد.
التهديد وقع بعبارة ﴿ ... فَتَرَبَّصُوا ... 11؛ أي انتظروا حتى يأتي أمر الله، وإضمار التهديد هنا فيه ما لا يخفى من قوة، إذ إنه يحتمل كل عقوبة، وأن إظهار بعضها في الآيات التي سنذكرها كالعذاب والاستبدال وعلى عظمتها، ولكنه لا يمنع من احتمالات أخرى قد تكون أشد وأدهى، وقد تكون أقرب، وبالتالي فتح الباب أمام احتمالات كثيرة لا ينقضى معها قلق الإنسان أو المجتمع الذي يتخلى عن الجهاد.
طبيعة التهديد واضحة من خلال أمور ثلاث:

الأمر الأول: إنه نتيجة تقديم عناوين التعلق بالدنيا ومفاتنها وزبرجها على حب الله ورسوله، فمن الطبيعي أن لا يكون موقفًا إيجابيًّا.

الأمر الثاني:﴿ ... وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 11 فيه تلويح أشبه بالصريح أن نتيجة هذا الفعل هي أن هؤلاء أصبحوا في عداد القوم الفاسقين، وأرى فرقًا بين أن يقول قائل: (فلان عصى ففسق)، وبين أن يقول: (فلان عصى فأدخل في القوم الفاسقين). فإن الأول يترتب عليه أثر شخصي، والثاني يترتب عليه أثر أعم، والله العالم.

الأمر الثالث:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 12.

إن الفرق بين مقتضى هذه العقوبة وسابقتها، على ما يظهر من الآيات، هو أن العقوبة السابقة مترتبة على تقديم عناوين التعلقات الدنيوية على الله ورسوله والجهاد في مقام الحب (أحب إليكم)، وهذا الحب القلبي (الدنيوي) يترتب عليه التقاعس والخمول، يعني بشكل غير مباشر. أما في هذه الآية فالأمر مختلف، إذ الذي يترتب عليه العقوبة هو (التثاقل) إلى الأرض يعني عدم الحركة، عدم الخفة استجابة للأمر الإلهي بالتفرد والجهاد الموجه إليهم مباشرة من قوله تعالى:﴿ ... انْفِرُوا ... 13، ثم لعل الذي يزيد في الإيضاح هو التمهل المبني على الإيضاح وزيادة الحجة على هؤلاء القوم، حيث بيّن لهم أن السبب هو رضاهم بالدنيا، وتذكيرهم بأن هذه الدنيا الفانية ليست شيئًا أمام الآخرة، ووعد الله. ومن المعلوم أنه كلما كان الأمر أوضح، وكانت الحجة أبين، وكان الحق في المعركة وفي التكليف أظهر، كلما استلزم ذلك العقوبة بشكل أشد.

والعقوبة هنا في أمرين:

الأمر الأول: العذاب الأليم: ويظهر منه – والله العالم – العذاب الدنيوي، بقرينة قوله تعالى:﴿ ... وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا ... 14، فإن السياق كله حتى قوله تعالى:﴿ ... وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ... 14، بيان للأثر الدنيوي، إذ هذا هو واقع الاستبدال ومعناه، وأيضًا هنا يبيّن طبيعة العذاب ومداه وحجمه، ولعل الإطلاق لغاية الشمول لمصاديق متعددة بحسب الدرجة والموضوع والقضية.

الأمر الثاني: الاستبدال: يعني الاستغناء عنهم في مقام خدمة الرسالة والدين، وهذا إخراج لهم عن مقتضيات الرحمة الإلهية الخاصة باتباع الرسالة، وهذا يترتب عليه آثار كبيرة وعظيمة على المستوى الفكري والعقائدي والعملي والسياسي والاقتصادي وما شاكل، والاستبدال هو إلى قوم أفضل كما في قوله تعالى:﴿ ... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ 15. وتأمل في قوله تعالى: ﴿وإن تتولوا﴾، ومقتضى الجمع بين الآيتين أن التثاقل سيؤدي إلى العداء في ظرف وجوب الجهاد، وهذه نكتة مهمة وحساسة يبتلى بها المجتمع المتدين، وهذا هو مراد أمير المؤمنين(ع) في قوله: “فمن تركه – الجهاد – رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل”16.

والله تعالى في مقام التأكيد على أن فائدة هذا الجهاد هي لكم، كي لا تصابوا بالعذاب أو الاستبدال، بيّن أنهم لن يضروا الله تعالى، وهو القادر على كل شيء. فمنفعة الجهاد تعود إليكم فقط، دفعًا للتوهم أو التخيل كما ربما يوسوس الشيطان لابن آدم.

وحتى لا يقول أحد أن المراد من النفر هنا أعم من الجهاد، أو قد يكون مغايرًا، نذكر الآية الأخرى في سورة المائدة حيث يقول تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ 17 18.