مجموع الأصوات: 58
نشر قبل 6 سنوات
القراءات: 5735

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التقدم واحترام الكفاءات

ان تكريم المبدعين يرفع درجة الطموح والتطلع نحو التقدم والإبداع لدى أبناء المجتمع، لذلك تجتهد المجتمعات المتقدمة في وضع البرامج، وابتكار الأساليب، لتقدير الكفوئين من أبنائنا، بالاحتفاء بهم إعلاميا، وتكريمهم اجتماعيا، ورصد الجوائز والأوسمة لهم، وتوفير وسائل العيش الكريم، والخدمات اللازمة لفاعليتهم ونشاطهم. وقد أخذت مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة عن المجتمعات المتقدمة بعض عادات الاهتمام وبرامج التقدير للمتفوقين، لكنها تكاد تنحصر في الاهتمام بالمتفوقين في القوى البدنية كالرياضيين، والقدرات الفنية كالمغنين.
في عام 2000م قام أحد أنديتنا الرياضية في المملكة بشراء لاعب من ناد آخر بمبلغ 9 ملايين ريال، نصيب اللاعب مليونا ريال وراتبه الشهري 25 ألف ريال، وقبل فترة تم تكريم لاعب من أحد الأندية بمناسبة اعتزاله وقدمت له هدايا بمبلغ 400 ألف ريال.
وذكر موقع (اللاعب) على الانترنت انه: أعلنت اللجنة المنظمة لحفل اعتزال لاعب بمناسبة اعتزاله اللعب خلال الأشهر القادمة ان تكلفة اقامة حفل الاعتزال أكثر من مليون ونصف وسيكون في مدن الرياض وجدة والدمام.. وبلغ عدد رجال الأعمال الذي أبدوا مساهمتهم في التكريم 245 شخصية.. ومن المنتظر ان يبلغ اجمالي الهدايا ما مقداره 4 ملايين ريال.
وقبل فترة أفردت مجلة (المجلة في عددها رقم 878 بتاريخ 8ـ14 من ديسمبر 1996م) ملحقا حول أجور الفنانين العرب، جاء فيه: تصل حصص كبار الفنانين السعوديين الى 600 ألف ريال مقابل النسخة الأصلية من الشريط، ونسبة من توزيعه تختلف باختلاف الفنان. فمنهم من يحصل على ريال مقابل كل شريط او ريالين، وأحيانا تصل الى ثلاثة ريالات، وهذا يعني ان دخل الفنان من الكاسيت فقط يصل لأكثر من مليون ونصف سنويا، اذا افترضنا انه يطرح شريطين في السنة. وتتراوح أجرة إحياء الحفلات الخاصة من قبل كبار الفنانين بين 80 الى 100 ألف ريال للحفلة الواحدة، دون أجر الفرقة المصاحبة.
أما العلماء، والمفكرون، والأدباء المبدعون، وسائر الكفاءات النافعة، فهي في الكثير من أقطار العالم الثالث تتمنى السلامة على نفسها، فضلا عن ان يتوافر لها الاهتمام والتقدير، حتى قال احد الأدباء (الشاعر العراقي احمد مطر) معبرا عن هذه الحقيقة المرة:
قال أبي في كل قطر عربي *** ان اعلن الذكي عن ذكائه فهو غبي
بالطبع لا يمكن التعميم فهناك بشائر طيبة وبوادر مشجعة هنا وهناك، لكن المقصود هو الحالة العامة والوضع السائد في الوطن العربي والعالم الإسلامي، قياسا على امكاناته الهائلة، ومقارنة بأوضاع المجتمعات الأخرى. ومما يشاد به عندنا في المملكة جائزة الملك فيصل العالمية وبرامج تكريم المتفوقين دراسيا في كل عام.
ان الكفاءة يجب ان تحترم لذاتها وعطائها، من أي عائلة انبثقت، والى أي طبقة انتمت، ومن أي طائفة كانت.
هكذا يأمر العقل والى هذا يرشد الشرع.
يقول الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ... 1.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي النجدي في تفسيره لهذه الآية:
﴿ ... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ... 1أي لا يحملنكم. ﴿ ... شَنَآنُ قَوْمٍ ... 1 أي: بغضهم. ﴿ ... عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ... 1 كما يفعله من لا يعدل عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، فلو كان كافرا او مبتدعا. فانه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق.وفي ثلاثة موارد من القرآن الكريم يقول الله تعالى ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ... 2. والبخس ـ كما يقول ابن عاشور ـ هو انقاص شيء من صفة او مقدار هو حقيق بكمال في نوعه.
ولنتأمل قوله تعالى ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ ... 2 ولم يقل المسلمين او المؤمنين فقط، ومن مسلمات الفقه الإسلامي عدم جواز البخس والظلم لأي إنسان إلا ان يكون معتديا فيقاوم عدوانه.
﴿ ... أَشْيَاءَهُمْ ... 2 تشمل الحقوق المادية والمعنوية فكما لا يجوزان تبخس احدا من الناس شيئا من حقوقه المادية، كذلك لا يصح أن تبخس شيئا من حقوقه المعنوية.
وفي تراثنا الإسلامي تأكيد على خلق الإنصاف من مادة (نصف) يقال في اللغة أنصف النهار: أي انتصف وأنصف الشخص اذا عدل. وتناصف القوم: أي أنصف بعضهم بعضا من نفسه. وقيل: اذا تعاطوا الحق بينهم. وقال في القاموس: انتصف منه: استوفى حقه منه كاملا.
ومن تعريفات علماء الأخلاق للإنصاف انه: استيفاء الحقوق لأربابها. ومن روائع حكم الإمام علي ابن أبي طالب قوله: «الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الإئتلاف» وقال: «زكاة القدرة الإنصاف».
وفي السيرة النبوية: نقرأ كيف احترم الرسول سفانة ـ بفتح السين وتشديد الفاء بنت حاتم الطائي، والذي مات على الكفر قبل الإسلام وأمر بإطلاق سراحها من السبي قائلا: «خلوا عنها فان إباها كان يحب مكارم الأخلاق. وان الله يحب مكارم الأخلاق». ونقرأ في تاريخنا أيام عزة الحضارةالعربية كيف ان الشريف الرضي العالم الفقيه (359ـ406هـ) يشيد بأدب وشخصية أبي اسحاق ابراهيم بن هلال الصابي ـ وهو على دين الصابئة ـ وفي مراسلاته له بالشعر والنثر ثم يبكيه ويرثيه بقصيدة تعتبر من أروع قصائده في الرثاء ومطلعها:
أعلمت من حملوا على الأعواد *** جبل هوى لو خر في البحر اغتدى
ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى *** أرأيت كيف خبا ضياء النادي
من وقعه متتابع الأزباد *** ان الثرى يعلو على الأطواد
الى ان يقول:
الفضل ناسب بيننا ان لم يكن *** شرفي مناسبة ولا ميلادي
وينقل الثعالبي في يتيمة الدهر: ان الشريف الرضي مر يوما بقبر أبي اسحاق الصابي وهو بالجنينة من أرض كرخايا فقال:
أيعلم قبر بالجنينة أننا *** اقمنا به ننعي الندى والمعاليا
عطفنا فحيينا مساعيه انها *** عظام المساعي لا العظام البواليا
الى آخر قصيدته وهي 35 بيتا.
وكذلك فعل أخوه السيد المرتضى علم الهدى حيث رثى ابا اسحاق الصابي بقصيدة رائعة، كما تحدث عن ذلك الدكتور محمد ابراهيم المطرودي الاستاذ بجامعة الملك سعود في كتابه (الشريف المرتضى وأدبه) الرياض 1413هـ .هكذا كان أسلافنا يحترمون الكفاءة لذاتها وعطائها.
وهكذا يشجعنا الإسلام على الاعتراف بفضل ذوي الفضل يقول تعالى ﴿ ... وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ... 3.
ويأمرنا بشكر من يستحق الشكر، حيث ورد عن رسول الله انه قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» 4 5.