الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تنزيه سيدنا محمد عن الذنب

نص الشبهة: 

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ... أو ليس هذا صريحا في أن له صلى الله عليه وآله ذنوبا وان كانت مغفورة .

الجواب: 

قلنا أما من نفى عنه صلى الله عليه وآله صغائر الذنوب مضافا إلى كبائرها، فله عن هذه الآية أجوبة نحن نذكرها ونبين صحيحها من سقيمها.
منها: انه أراد تعالى بإضافة الذنب إليه ذنب أبيه آدم عليه السلام. وحسنت هذه الإضافة لاتصال القربى، وعفوه لذلك، من حيث اقسم آدم على الله تعالى به، فأبر قسمه، فهذا المتقدم. والذنب المتأخر هو ذنب شيعته وشيعة أخيه عليه السلام. وهذا الجواب يعترضه أن صاحبه نفى عن نبي ذنبا واضافه إلى آخر. والسؤال عليه فيمن اضافه إليه كالسؤال فيمن نفاه عنه. ويمكن إذا أردنا نصرة هذا الجواب أن نجعل الذنوب كلها لامته صلى الله عليه وآله، ويكون ذكر التقدم والتأخر إنما أراد به ما تقدم زمانه وما تأخر، كما يقول القائل مؤكدا: " قد غفرت لك ما قدمت وما أخرت وصفحت عن السالف والآنف من ذنوبك ".
ولأضافه ذنوب أمته إليه وجه في الاستعمال معروف لان القائل قد يقول لمن حضره من بني تميم أو غيرهم من القبائل انتم فعلتم كذا وكذا وقلتم فلانا وان كان الحاضرون ما شهدوا ذلك ولا فعلوه وحسنت الإضافة للاتصال والتسبب ولا سبب اوكد مما بين الرسول صلى الله عليه وآله وأمته فقد يجوز توسعا وتجوزا أن تضاف ذنوبهم إليه (ومنها) انه سمى ترك الندب ذنبا وحسن ذلك لأنه صلى الله عليه وآله ممن لا يخالف الأوامر إلا هذا الضرب من الخلاف ولعظم منزلته وقدره فجاز ان يسمي بالذنب منه ما إذا وقع من غيره لم يسم ذنبا وهذا الوجه يضعفه على بعد هذه التسمية انه لا يكون معنى لقوله انني اغفر ذنبك ولا وجه في معنى الغفران يليق بالعدول عن الندب (عن الذنب).
ومنها: ان القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب كما قلناه في قوله تعالى: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ... 1. وهذا ليس بشئ لان العادة قد جرت فيما يخرج هذا المخرج من الألفاظ أن يجري مجرى الدعاء، مثل قولهم: غفر الله لك، وليغفر الله لك، وما أشبه ذلك.
ولفظ الآية بخلاف هذا لان المغفرة جرت فيها مجرى الجزاء والغرض في الفتح. وقد كنا ذكرنا في هذه الآية وجها اخترناه وهو أشبه بالظاهر مما تقدم، وهو أن يكون المراد بقوله ما تقدم من ذنبك الذنوب إليك، لان الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا، ألا ترى أنهم يقولون: أعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى الفاعل، وأعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى المفعول. ومعنى المغفرة على هذا التأويل هي الإزالة والفسخ والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه، وذنوبهم إليه في منعهم إياه عن مكة وصدهم له عن المسجد الحرام.
وهذا التأويل يطابق ظاهر الكلام حتى تكون المغفرة غرضا في الفتح ووجها له. وإلا فإذا أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله: ﴿ ... إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا 2﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ... 3معنى معقول، لان المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح، إذ ليست غرضا فيه.
وأما قوله تعالى: ﴿ ... مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ... 3، فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح لك ولقومك وما تأخر، وليس لأحد أن يقول ان سورة الفتح نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله بين مكة والمدينة وقد انصرف من الحديبية.
وقال قوم من المفسرين: ان الفتح أراد به فتح خيبر، لأنه كان تاليا لتلك الحال، وقال آخرون: بل أراد به أنا قضينا لك في الحديبية قضاء حسنا.
فكيف يقولون ما لم يقله أحد من أن المراد بالآية فتح مكة، والسورة قد نزلت قبل ذلك بمدة طويلة، وذلك ان السورة وان كانت نزلت في الوقت الذي ذكر وهو قبل فتح مكة، فغير ممتنع ان يريد بقوله تعالى ﴿ ... إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا 2فتح مكة. ويكون ذلك على طريق البشارة له والحكم بأنه سيدخل مكة وينصره الله على اهلها، ولهذا نظائر في القرآن، والكلام كثير.
ومما يقوي أن الفتح في السورة أراد به فتح مكة قوله تعالى: ﴿ ... لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا 4فالفتح القريب ههنا هو فتح خيبر. وأما حمل الفتح على القضاء الذي قضاه في الحديبية فهو خلاف الظاهر.
ومقتضى الآية لان الفتح بالإطلاق الظاهر منه الظفر والنصر. ويشهد بأن المراد بالآية ما ذكرناه قوله تعالى:﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ 5.
فإن قيل: ليس يعرف اضافة المصدر إلى المفعول إلا إذا كان المصدر متعديا بنفسه، مثل قولهم: أعجبني ضرب زيد عمرا. وإضافة مصدر غير متعد إلى مفعوله غير معروفة.
قلنا: هذا تحكم في اللسان وعلى أهله لأنهم في كتب العربية كلها أطلقوا ان المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول معا، ولم يستثنوا متعديا من غيره، ولو كان بينهما فرق لبينوه وفصلوه كما فعلوا في غيره وليس قلة الاستعمال معتبرة في هذا الباب لان الكلام إذا كان له أصل في العربية استعمل عليه، وان كان قليل الاستعمال.
وبعد فإن ذنبهم ههنا إليه انما هو صدهم له عن المسجد الحرام ومنعهم إياه عن دخوله، فمعنى الذنب متعد، وإذا كان معنى المصدر متعديا جاز أن يجري ما يتعدى بلفظه، فإن من عادتهم ان يحملوا الكلام تارة على معناه وأخرى على لفظه، ألا ترى إلى قول الشاعر:

جئني بمثل بني بدر لقومهم *** أو مثل اخوة منظور بن سيار

فاعمل الكلام على المعنى دون اللفظ، لانه لو أعمله على اللفظ دون المعنى لقال: أو مثل: بالجر، لكنه لما كان معنى، جئني احضر، أو هات قوما مثلهم.
حسن أن يقول أو مثل بالفتح، وقال الشاعر:

درست وغير آيهن مع البلى *** الا رواكد جمرهن هباء

ومشجج 6 اما سوار قذى له *** فبدا وغيب سارة المعزاء

فقال: ومشجج بالرفع اعمالا للمعنى، لانه لما كان معنى قوله الا رواكد أنهن باقيات ثابتات عطف على ذلك المشجج بالرفع.
ولو أجرى الكلام على لفظه لنصب المعطوف به أو أمثله هذا المعنى كثير. وفيما ذكرناه كفاية بمشيئة الله تعالى 7.