الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

امكانية تفوق المسلمين مدنيا

قد لا يتأتّى لنا أن ننطلق في الحديث عن موضوعنا هذا إلاّ بعد أن نمهّد له بما يحدد مفهوم الحضارة في لغتنا العربية المعاصرة ، و ذلك لنتبيّن محور البحث بوضوح و جلاء ، فنتحرّك منه و إليه في مسيرة توصلنا إلى غايتنا دونما عثار أو تعثّر .
كذلك لابدّ لنا من أن نمهّد له بما يكشف لنا عن مدى نجاح التجربة التاريخية للحضارة الإسلامية ، لما يلقيه هذا النجاح من ضوء على ما نحن بصدد الإعراب عنه من إمكانية صمود المسلمين أمام إثارات و مؤثرات التحدي الحضاري الغربي القائم ، و لما يساعد عليه من تمتين الرجاء و تقوية الأمل في نفوس المسلمين ، و هو يحدوهم إلى أن يضعوا حضارتهم في مركزها الطبيعي الذي يمنحها التقدّم و الازدهار مرة أخرى ، لكي تخرج من هذا الواقع المعاش و هي أقوى قدرة و أمضى إرادة على تحقيق رسالتها التي هي النهوض بالبشرية إلى مستويات أعلى في العطاء الفكري المثمر ، و مستويات أعلى في التجسيد الحي للعدالة الإنسانية في واقع هذا العالم المضطرب الذي يعاني غير قليل من عدم وضوح المستقبل و ما سيصير إليه هذا الإنسان بسبب تفاعله مع ما يفرزه هذا الصراع الحضاري الراهن ، فأقول :
إن لكلمة ( حضارة ) في لغتنا العربية المعاصرة معنيين ، أحدهما قديم ، يمتدّ في بدايات استعمالها فيه ـ كما يبدو من التعريف المعجمي له ـ إلى بدايات استعمال اللغة العربية الجاهلية ، و ثانيهما حديث معاصر ، انتقل إليها بتأثير التفاعل الاجتماعي و التقارض اللغوي بين مجتمعنا العربي و المجتمعات الغربية ، و بين لغتنا العربية و اللغات الأوربية ، و بخاصة الإنجليزية و الفرنسية ، و عن طريق الترجمة العلمية لمصطلحات و مفاهيم العلوم الإنسانية و الاجتماعية .
و في ضوء هذا لنا أن نسمي المعنى القديم بالمعنى اللغوي ، و المعنى الحديث بالمعنى العلمي .
و في تعريف المعنى اللغوي لا يختلف معجم عربي عن معجم عربي آخر في أن مفهوم الحضارة يقابل مفهوم البداوة ، و أن كلمة حضارة تضاد كلمة بداوة ، و كذلك مشتقاتهما ، فكلمة ( حاضرة ) تضاد كلمة ( بادية ) ، و مفهوم ( حضر ) يقابل مفهوم ( بدو ) ، لأن أجدادنا العرب كانوا يقولون في قديم استخداماتهم اللغوية الاجتماعية ، و كذلك في جديدها المعاصر لمن لا يزال يعيش في امتداد ذلك الواقع القديم : ( فلان من أهل الحاضرة ) و ( فلان من أهل البادية ) و ( فلان حضري ) و ( فلان بدوي ) .
و منه أفاد المعجم العربي حيث يقول في تعريفاته لمشتقات هذا الجذر اللغوي : ( الحضر خلاف البدو ) و ( الحاضر خلاف البادي ) و ( الحضارة خلاف البداوة ) و ( الحاضرة خلاف البادية ) 1 .
و هذه المقابلة و المضادة تعني أن تعريف أحد المتقابلين و المتضادين يلزمه تعريف الآخر بسلب معناه عنه ، فَلْنَرَ ـ في ضوء هذا ـ ماذا تعني البداوة لنعرف من خلال سلب معناها معنى الحضارة .
يقول المعجم : البداوة : هي الإقامة في البادية 2 .
و على أساس منه ، و في ضوء ما ذكرنا ، عرّف المعجم الحضارة بالإقامة في الحاضرة أو الحضر 3 .
و يعرّف المعجم العربي الحضر بأنه : المدن و القرى و الأرياف 4 .
و تعلل تسمية الإقامة في المدن و القرى و الأرياف بالحضارة ـ كما يستنتج من التعريفات المعجمية ـ لأن أهلها حضروا الأمصار و سكنوا الديار التي يكون لهم بها قرار .
و بالمقابلة فالبداوة تعني التنقّل و الترحّل في البادية .
و عليه : فإننا إذا حاولنا أن نستخدم لغة الجغرافيا الحديثة ، نقول : الحضارة تعني الاستقرار الاستيطاني ، و بخلافها البداوة فإنها تعني عدم الاستقرار الاستيطاني .
و في التعبير المعجمي المتقدّم ( لهم بها قرار ) ملمح إلى هذا المعنى .
و من المعلوم ـ تاريخيًا ـ أن من أهم معطيات الاستقرار الاستيطاني ، أو بالأحرى : أن من أهم مستلزماته ، هو التمدّن .
فهذا الملمح الذي أشرتُ إليه يشير إلى المعنى الحديث للحضارة الذي هو التمدّن .
و قد يكون لطريقة الاختصار التي التزمها المعجميون العرب القدامى في تعريفاتهم لمعاني الألفاظ تأثير على ذلك .
و الحضارة بهذا المعنى تعطي أنها مرحلة متقدّمة من مراحل التطوّر الإنساني ، وصل إليها الإنسان بعد أن قطع أكثر من مرحلة في طور البدائية و البدوية .
و من أبرز من أشار إلى مراحل تطوّر الجنس البشري هو العالم الأنثروبولوجي لويس موركن في كتابه عن ( المجتمع القديم ) الذي نشره في عام 1877 م ، و الذي عنونه بـ ( بحوث في التقدّم البشري منذ عهد التوحّش و هلال فترة البربرية إلى فترة المدنية ) ، فقد قسّم المراحل إلى ثلاث ، هي :
1ـ مرحلة التوحّش ، و هي مرحلة الجمع و الصيد .
2ـ المرحلة البربرية ، و هي مرحلة الزراعة المستقرّة .
3ـ مرحلة المدنية ، و هي المرحلة التي اخترع فيها الإنسان حروف الكتابة ، و عرف الكتابة فانتقل بها من المرحلة البربرية الأمّية إلى بداية التمدّن .
و من أهم عناصر و مقوّمات التمدّن :
1ـ العقلانية في التفكير .
2ـ الخلقية الفاضلة في السلوك .
3ـ العمران الفنّي في التصميم و الإنشاء .
4ـ استثمار موارد الطبيعة زراعيًا و صناعيًا .
5ـ إنشاء المؤسسات الثقافية .
و من هنا أضافت المعاجم اللغوية العربية الحديثة هذا العنوان لدلالة الحضارة .
ففي ( الهادي ) : « الحضارة : خلاف البداوة ، و يقال : فلان من أهل الحضارة ، أي من سكان المدن و القرى .
و الحضارة في معناها الحديث هي التمدّن » 5 .
و في ( الصحاح : معجم اللغة و العلوم ) : « الحضارة Civilization : ضد البداوة ، و تقابل الهمجية و الوحشية ، و هي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني .
( و ) جملة مظاهر الرقي العلمي و الفني و الأدبي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة » 5 .
و يقول البروفسور دينكن ميتشيل Pr . Duncan Mitchell في ( معجم علم الاجتماع ـ ترجمة د . الحسن ) ـ ص 67 ط2 ـ : « إن جميع التعاريف الأنثروبولوجية لاصطلاح الحضارة تأثرت بطريقة أو أخرى بتعريف البروفسور إدوارد تايلر Edward Tylor للحضارة » ، الذي عرف بأنه « اهتمّ بدراسة الحضارة البشرية أكثر من اهتمامه بأي موضوع آخر » 6 .
عرّف تايلر الحضارة : « بأنها ذلك الكل المعقّد الذي يتكوّن من مجموعة المعتقدات و الأفكار و الآراء و القيم و المقاييس و المعارف و الفنون و الفلسفة و الأديان و القوانين و الأخلاق و جميع القابليات و المهارات التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه » 7 .
و يمكننا أن نعرف الحضارة بتعريف آخر يجمع التعريفين القديم و الحديث و باختصار ، و ذلك بأن نقول : الحضارة : هي التوطّن .
فهو يقابل البداوة لأنها لا توطّن فيها ، ذلك أن البدوي في البادية في تنقّل دائم لالتماس مواضع النجع حيث مساقط الغيث و منابت الكلأ ، و لأن التوطّن تستتبعه اللوازم التي ذكرتها في أعلاه كعناصر للتمدّن .
و هنا لابدّ من الإشارة ـ تمهيدًا للموضوع أيضًا ـ إلى أن علماء الاجتماع و كذلك علماء الأنثروبولوجي ينقسمون إلى فريقين في المقارنة بين مفهوم الحضارة و مفهوم المدنيّة ، و بالتالي بين مفهومي التحضّر و التمدّن ، فريق يرادف بينهما ، فالحضارة ـ في رأيه ـ هي المدنيّة ، و المدنيّة تعني الحضارة ، و فريق يفارق بينهما ، و منه ما ذهب إليه بعضهم حيث عرّف الحضارة بذلك « الكل المعقّد الذي يشمل المعرفة ، المعتقدات ، الفنون ، الأخلاق ، و القوانين و العادات التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه .
أما المدنيّة فهي جميع المنجزات أو مجموعة الإنجازات التي تميّز طابع الحياة في المدينة المنظّمة أو الدولة المنظّمة » 8 .
كما حاول الدكتور ألفريد فيبر Alfred Weber التمييز بين الحضارة و المدنيّة ، فقال : « من الضروري التمييز بين ثلاث عمليات ، و هي : عملية المجتمع ، عملية المدنية ، و عملية الحضارة .
فالعملية الاجتماعية لها نتائج تنعكس في إنتاج أنواع مختلفة من البنيات الاجتماعية التي لها أصل واحد و طريقة واحدة في التغير من شكل لآخر . . فالعائلة ـ مثلاً ـ تتحوّل في جميع المجتمعات الإنسانية من عائلة ممتدة إلى عائلة نووية 9 .
بعملية المدنية يعني الدكتور فيبر نمو فروع المعرفة ، و تقدّم سبل السيطرة الفنية على القوى الطبيعية ، ذلك التقدّم المتماسك الذي له نظام منتظم ينتقل من شعب لآخر .
أما عملية الحضارة فإنها لا تسير في خط واضح المعالم ، كما تسير عملية المجتمع و عملية المدنية .
فالحضارة لا يمكن أن تفهم إلاّ إذا درست دراسة تاريخية تقتفي تطوّر أجزاء الحضارة و علاقتها الواحدة بالأخرى » 8 .
و قد نستطيع أن نقول ـ بعد أن عرفنا أنّ كلاًّ من الحضارة و المدنيّة مرحلة متقدّمة في تطوّر المجتمع البشري ـ إن التقدّم الإنساني يقوم على دعامتين ، هما :
1ـ التقدّم في الجانب الثقافي : الفلسفة و الأدب و الفن .
2ـ التقدّم في الجانب التقني : الآلة و العمران و استثمار الطبيعة .
و لنا أن نسمي الأول الجانب الحضاري ، و نسمي الثاني الجانب المدني ، فنعرّف و نميّز بين الحضارة و المدنيّة .
و إذا أردنا الاختصار بالعبارة نقول :
ـ الحضارة هي الجانب المعنوي للحياة .
ـ و المدنيّة هي الجانب المادي للحياة .
في ضوء هذه التّفرقة نستطيع أن نتعرّف الفرق بين واقع حضارتنا الإسلامية المعاصرة ، و واقع الحضارة الغربية المعاصرة ، و بيسر و وضوح .
و سيأتي هذا فيما بعد ، على أن أسمح لنفسي بأن أستعمل كلمة ( الحضارة ) قبل الوصول إلى مفترق الطريقين بين الحضارتين بمعناها العام ، و الشامل لمعناها الخاص و معنى المدنيّة الخاص .
كما ينبغي أن نضع في عرفاننا و حسباننا أن الحضارات تتفاوت فيما بينها ، فلكل حضارة :
ـ نطاقها Aired
ـ و طبقاتها Couches
ـ و لغاتها Languages
و في هدي هذا التفاوت نستطيع أن نتميّز الحضارة الإسلامية من سواها .
و من المعلوم أن الحضارة الإسلامية نشأت في بداياتها الأولى في المدينة المنورة ، و تمثّلت في التالي :
1ـ العقيدة الإسلامية ، التي هي ـ في واقعها ـ نظرة عقلانية عن الكون و الحياة و الإنسان .
2ـ التشريع الإسلامي ، الذي هو نظام حياة الإنسان المسلم فردًا و مجتمعًا و دولةً .
3ـ النظام الأخلاقي الإسلامي ، الذي يرتفع بسلوك الإنسان المسلم إلى مستوى الفضيلة ، و ربطه بمبدأ الخير الأسمى ، و هو رضا الله تعالى .
4ـ الدولة الإسلامية ، التي هي تطبيق لما تقدّم في واقع حياة المسلمين .
و قرأنا ـ تاريخيًا في أمثال سيرة ابن هشام ـ أن الرسول ( ص ) قام بإبرام أكثر من معاهدة ، و بعث السفراء السياسيين و الآخرين الثقافيين ، و أشاد المساجد ، و جعلها مواضع تعبّد و تهجّد ، و مراكز تعليم و تعلّم .
إلى أعمال أخرى كثيرة ذكرها مؤرخو السيرة النبويّة .
و كانت هذه هي التجربة الأولى و الرائدة للحضارة الإسلامية ، و قد بدأت من نقطة الصفر ، و في مجتمع غير مؤهّل التأهيل الكافي للنهوض بها ، و لولا قدرة النبي محمد ( ص ) الفائقة على التربية الخلاّقة و المبدعة لما استطاعت هذه التجربة أن تخرج من الامتحان في تحدياته الصعبة و المرّة بنجاح و نصر نموذجيين في مستواها من حيث تحقيق الغاية المنشودة .
و في العصر العبّاسي حيث ازدهرت الحضارة الإسلامية في مختلف المجالات الفكرية و العملية كانت التجربة الثانية .
ففي مجال الفكر كانت الفلسفة الإسلامية إلى جانب الفلسفات الأخرى التي استقبلها المسلمون عن طريق الترجمة ، و أقبلوا على دراستها للإفادة منها ، و على نقدها لتصويب ما يفتقر منها إلى تصويب .
و كان في مقدّمة الفلاسفة المسلمين الإمام جعفر بن محمد الصادق ( ع ) ، و حفيده الإمام علي بن موسى الرضا ( ع ) ، و حفيده علي بن محمد الهادي ( ع ) ، و أبو يوسف الكندي و أبو نصر الفارابي و ابن سينا و الغزالي و الخواجة الطوسي و غيرهم .
و من غير شكّ أن الفلسفة من أبرز معالم الرقي الفكري .
و كان إلى جانب هذا نشوء و تطوّر العلوم الإسلامية كالقراءات و التفسير و الحديث و الفقه و الكلام و أصول الفقه و سواها .
و كذلك نشوء و تطوّر علوم اللغة العربية كالنحو و الصرف و البلاغة و العروض و أصول اللغة و خلافها .
و بلغ الأدب العربي ـ في هذا العصر ـ بشعره و نثره قمّة مستواه الفني .
و مثله الفن و في كل مجالاته .
و أيضًا نضجت في هذا العصر علوم الطب و الصيدلة و الفلك و الرياضيات و غيرها .
و في العمران و ما يعبّر عنه من تصميمات هندسية رائعة يكفينا شاهدًا آثار العباسيين في بغداد و الفاطميين في القاهرة و الأمويين في الأندلس .
و في إطار التقييم لهذه التجربة الثانية للحضارة الإسلامية تعدّ من أروع التجارب الحضارية المتفوِّقة .
و إلى هنا ، و من الآن سأستخدم كلمتي حضارة و مدنيّة بمفهوميها الخاصين ، و سأستعمل بدل كلمة حضارة بمعناها العامّ كلمة تقدّم .
بعد سقوط الدولة العبّاسية مُنيَ التقدّم الإسلامي بشيء من الركود في الجانب الحضاري ، و بشيء غير قليل من الجمود في الجانب المدني .
و استمرّ الوضع هكذا بين مدٍّ خفيف و جزرٍ عنيف ، حتّى بدايات القرن العشرين الميلادي حيث سقطت الدولة العثمانيّة ، و سيطر الغربيون على معظم البلاد الإسلامية ، و جاء دور غزو الحضارة الغربية ، و قد استفاد الغربيون كثيرًا من الوضع الإسلامي الحضاري و المدني في ضعفه الذي آل إليه ، فازداد المدّ ضعفًا و الجزر عنفًا ، و أصبح المسلمون يعيشون ضغوط الغزو الغربي ، و يعيشون أفاعيله في التغيير من واقع حضارتنا لصالح حضارته ، و في محاولاته الصريحة و الجريئة لطمس معالم الحضارة الإسلامية .
و حتّى النصف الثاني من هذا القرن العشرين حيث بدأ المسلمون يكافحون هذا الغزو الحضاري الغربي بتحريك ذلك الركود الذي أشرت إليه في أعلاه ، و ذلك بإنشاء المؤسسات الثقافية ، و محاولة الاستفادة من الوسائل و الأساليب الغربية في إعادة بناء الحضارة الإسلامية وفق متطلّبات المعاصرة .
و في الربع الثاني من هذا النصف الثاني نشط المسلمون في محاولة اختراق الحضارة الغربية في مواقعها الممنعة و مراكز انطلاقاتها القوية و هي البلدان الغربية ، فأنشأوا فيها المؤسسات الثقافية .
و منذ سنوات قليلة ، و بخاصّة بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران ، احتدم الصراع فكريًا و سياسيًا و اقتصاديًا بين الحضارتين الإسلامية و الغربية .
و هنا يأتي دور المقارنة لنعرف واقع كل من الحضارتين الآن و من بعد ذلك نتعرّف مدى إمكانية الحضارة الإسلامية في الصمود و التقدّم .
في الواقع الراهن لكل من الحضارتين شيء من التوازن ، و هذا ـ بدوره ـ يعطي الحضارة الإسلامية القدرة على الصمود ، و القدرة على التقدّم ، و من ثم القدرة على التحدّي الفاعل .
من غير شكّ أن الغربيين يتفوّقون مدنيًّا سواءً في التكنولوجيا في مجاليها التقني و الصناعي أم في اقتصادياتها في عالمي الشركات الكبرى في الصناعة و الزراعة و التجارة و العمران ، و عالم البنوك و مؤسسات النقد العالمية .
و من غير شكّ أنهم أصيبوا بشيء غير قليل من الوهن في الجانب الحضاري ، فحقوق الإنسان لم تعد هي حقوق الإنسان المعروفة في كل بلدانها و مناطق نفوذها ، و السمات الخلقية الفاضلة بدأت تتلاشى ، و ما انتشار تجارة المخدرات ، و ارتفاع نسب الطلاق ، و نسب الإجهاض ، و شيوع الأمراض الناشئة عن التحلل الجنسي كالإيدز ، و كثرة سرقات السطو المسلّح ، و أمثالها ، إلاّ بعض شواهد لهذا .
و في الجانب الإسلامي ، كذلك ، و من غير شكّ ، يعاني المسلمون من نقص في التكنولوجيا ، فالصناعات الثقيلة لا تزال قليلة ، إلاّ أن التحرّك إليها سريع ، و الشركات العالمية الكبرى تكاد تكون مفقودة ، و التحرّك إليها بطيء .
و لكن إلى جانب هذا يملك المسلمون من ثروات الطبيعة الخام المعدّة للتصنيع الشيء الذي يتجاوز حدود الوفاء بتموين احتياجات التصنيع ، أمثال : النفط و احتياطياته و مشتقّاته ، و المياه و التربة الخصبة الصالحة للزراعة ، و المعادن الأخرى كالحديد و الذهب و الفضّة و الماس و النحاس و الرصاص و الفحم و الفوسفات و اليورانيوم و الرمل الزجاجي . . و إلخ .
وكذلك لديهم المراعي و المواشي الثروة الموفرة .
و بالنسبة إلى استراتيجيات العالم الإسلامي فإنه يحتلّ موقعًا ممتازًا بين مناطق العالم :
ـ فأكثر الدول الإسلامية تطل على أهم طرق المواصلات البحرية في العالم بعضها على المحيط الأطلسي ، و بعضها على البحر الأبيض المتوسط ، و بعضها عليهما معًا ، و بعضها على البحر الأحمر ، و بعضها على الخليج الأخضر .
ـ و يتحكّم العالم الإسلامي بأهم الممرات المائية ، أمثال : مضيق جبل طارق ، و مضيق هرمز و مضيق باب المندب ، مضيق البوسفور ، مضيق الدرنيل ، و ممر ملقا ، و ممر بنتلاريا ( قوصرة ) ، و قناة السويس .
ـ و يتمتّع العالم الإسلامي بموقع ذي أهمّيّة كبيرة بالنسبة لخطوط الطيران الدولية ، حيث يمرّ معظمها بسماء الدول الإسلامية .
ـ كما أن مساحة دول العالم الإسلامي تبلغ ـ مجتمعة ـ 32 مليون كيلومتر مربع ، أي بما يزيد على مساحة الولايات المتحدّة الأمريكية و دول ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي .
و باختصار ، إن الموازنة بين واقعي الحضارتين تنتج :
1ـ أن الغربيين يتفوقون مدنيًّا لأنهم يملكون الصناعات الثقيلة و الشركات العالمية الكبرى و المؤسسات الثقافية المنتشرة ، للبحث و الإنتاج الفكري ، أكثر مما هو لدى المسلمين .
2ـ إلاّ أنهم ـ أعني الغربيين ـ يتأخرون حضاريًا لأنهم لا يمتلكون الفلسفة التي تربط الإنسان بخالقه فتعطيه رواء الروح و استقرار النفس ، كذلك لا يملكون الإلزامات الأخلاقية .
يضاف إليه : أن الأحداث السياسية و العسكرية أبعدتهم عن المحافظة على حقوق الإنسان التي نادوا بها و دعوا إليها .
و أن الحيرة في مستقبل ما ينبغي أن يكون عليه النظام تلفّهم لفًّا فكريًا قلقًا .
3ـ أمّا المسلمون فيتفوّقون حضاريًّا لأنّهم يمتلكون الفلسفة التي تربط الإنسان بخالقه فتمنحه غذاء الروح و هدوء النفس و الأمل الثابت بالانتصار ﴿ ... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ 10 .
كذلك لديهم النظام الأخلاقي الإلزامي الذي يضبط سلوك الإنسان فيعطيه التوازن في تصرّفاته بما يحفظ له حقوقه و يلزمه بعدم الاعتداء على حقوق الآخرين .
كذلك عندهم التشريع العادل .
4ـ غير أنهم يفتقدون القدر الكافي من المدنيّة .
إلاّ أنهم بدأوا يتحركون في استكمال متطلّبات المدنيّة لاستكمال جميع وسائل و أساليب التقدّم .
بعد هذا : إن الرصيد الذي يمتلكه المسلمون ـ اليوم ـ و المتمثّل في :
ـ فهمهم لواقعهم و واقع غيرهم .
ـ إدراكهم بأن لديهم الثروة الطبيعية التي يمكنهم اعتمادها في تحقيق التقدّم و التفوّق على من سواهم .
ـ علمهم بالتجربة الرائدة الناجحة لحضارتهم الإسلامية .
ـ و عيهم بفروق التشريع بين الإسلام و غيره في مجال تحقيق العدالة الإنسانية .
ـ إيمانهم بأن من ينتصر لله ينتصر الله له .
ـ إن هذا الرصيد الضخم هو الذي وضع المسلمين الآن موضع الصمود أما مختلف التحديات الغربية و التصدّي لها .
إن هذا الرصيد الضخم هو الذي دفع المسلمين الآن إلى أن يخطوا هذه الخطوات المسرعة في استكمال كل متطلبات التقدّم .
ففي حساب المعادلات السياسية : إن المسلمين ـ الآن ـ يتحرّكون للارتفاع إلى مستوى القدرة الفاعلة و مستوى الإرادة المصممة إلى تحقيق التفوّق في الجانب المدني أيضًا .
بينما لا نجد عند الغربيين أي تحرّك نحو انتشال الواقع الحضاري مما تردّى إليه ، لأن الإفراز الفكري لديهم لا يزال ينحو نحو السير على رقبة الإنسان الضعيف .

  • 1. انظر : محيد المحيط و المعجم الوسيط و الهادي إلى لغة العرب و غيرها ، مادة : حضر .
  • 2. الهادي ، مادة : بدا .
  • 3. م . ن .
  • 4. انظر : المعجم الوسيط و المعجم العربي الحديث لاروس ، مادة : حضر .
  • 5. a. b. مادة : حضر .
  • 6. معجم علم الاجتماع 247 .
  • 7. م . س . 247 ـ 248 .
  • 8. a. b. معجم علم الاجتماع 46 .
  • 9. العائلة الممتدة : هي العائلة المنفردة التي لا تشكّل لبنة أو نواة في بناء المجتمع ، و بخلافها العائلة النووية التي هي لبنة أو نواة في تكوين البنية الاجتماعية .
  • 10. القران الكريم : سورة محمد ( 47 ) ، الآية : 7 ، الصفحة : 507 .