الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

بين الحضارة الاسلامية و المدنية الغربية

إذا كان الإسلام قد رفع شعاراً ، وجعل منه هدفاً يطمح إلى تحقيقه في المجتمع الإسلامي المتكامل ، وهو أن الناس سواسية كأسنان المشط ، وأن لا يكون التفاضل بينهم إلا بالتقوى ، وأنهم من آدم وآدم من تراب وأنه لا فضلَ لعربي منهم على‏أعجمي إلا بالتقوى ، وإذا كان الإسلام ينظر إلى بني آدم هذه النظرة فلماذا ـ يا ترى ـ كان الرق ، وما الحكمة من‏استمراره رغم تلك الدعوة المبدئية الواضحة ؟

الرق ظاهرة شاذة

هذا ما يدور في خلد البعض من تساؤلات تبحث عن إجابة ، فالرق ـ كما يبدو ـ هو ظاهرة اجتماعية شاذة ظهرت في‏ ظروف استثنائية خاصة ؛ أبرزها وقوع الحروب التي تمثل حالات غير طبيعية ، وإن كانت مستمرة ؛ فبعد أن أهبط اللَّه ‏سبحانه وتعالى آدم و زوجه إلى الأرض إثر النداء الإلهي : ﴿ ... وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ... 1، وما أن تكوّن أول تجمع بشري فوق هذا الكوكب حتى نشبت الحروب والصراعات ، حيث قتل قابيل أخاه هابيل رغم أنهما من أبوين واحدين ، ثم تطوّرت من بعد ذلك النزاعات والحروب فصارت‏ الكتل والجماعات ، وكانت القوة الغالبة الظاهرة لا تستعبد فقط أولئك الذين جاؤوا إلى ميادين القتال ، وساهموا فيها ثم ‏وقعوا في الأسر بل كل الذين هُزموا ، وخضعوا للغالب القوي ؛ وعلى سبيل المثال فإن اليونانيين عندما كانوا يهاجمون ‏بلداً ما ، ويقاتلون أهله ، ثم ينتصرون عليهم ، فإنهم كانوا يستعبدون النساء والأطفال ويحوّلونهم إلى غلمان وإماء بالإضافة إلى أسر الرجل واستعبادهم إن لم يقتلوهم .

وعندما أشرق الإسلام في سماء هذه الدنيا لم يعمل على تقليص وتحديد ظاهرة الاستعباد والاسترقاق فحسب ، بل راح‏ يرفع من قيمة العبيد في بعض الأحيان حتى أن قيمة العبيد كانت تفوق قيمة الأحرار في بعض الموارد الفقهية ، فالمعروف‏في الفقه ـ مثلاً ـ أن المرأة الحرّة لا تحل لزوجها إذا ما طلقت ثلاثاً حتى تنكح زوجاً آخر بصريح الآية الكريمة : ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ... 2، أما بالنسبة إلى الأمة فإن الطلاق‏مرتان ، وبذلك نجد أن حكم هذه الأمة أهم ، ونفعها أعظم ، وحقها أكبر من حق الحرة .

الحكمة من استمرار الرق‏

ويبقى السؤال : لماذا الرق ، وما الحكمة من استمراره في الإسلام ؟ يجرّنا هذا إلى التفكير بالحرب ، والقوة ، وأبعاد هذه‏القوة عبر التاريخ ، وبدافع هذا التفكير ننتبه إلى حقيقة مرّة ، وهي أن العبودية قد ألغيت في ظاهر الأمر في عالم اليوم كما تنصّ على ذلك وثيقة الأمم المتحدة بهذا الصدد ، ولعل بدايات هذا الإلغاء كانت على يد الزعيم الأمريكي ‏( ابراهام لنكولن‏ ) ، ولكن واقع الأمر أن هذا الاسترقاق قد انتقل من الطور الفردي إلى الطور الجماعي ، فبدلاً من أن يعمد الاستعمار إلى استرقاق الأفراد مضى يسترق الشعوب ، حتى غدت شعوب الأرض مستعبدة من ‏قبل دولة واحدة تفرض حكمها ورأيها على الجميع .

الرق الجديد

وأنا أذكر في هذا المجال أن هناك وثيقة صدرت عن البنتاغون تتحدث عن النفوذ الأمريكي ومصيره بعد فترة ما بعد الحرب الباردة ، وسقوط الشرق ، وكان عنوان هذه الوثيقة على شكل استفهام يقول : كيف تحافظ أميركا على مركز القوة العظمى في العالم كله ؟! وتتألف هذه الوثيقة من خمس وأربعين صفحة ، خلاصتها أن أميركا لابد من أن تحافظ على قوتها وجبروتها كي تبقى شرطيّ العالم كلّه ، وتتحكم بمصائر ومقدرات شعوبه وبلدانه ، ولا تسمح لأية دولة ـ مهما كانت وفي ‏أي منطقة من مناطق العالم ـ بالنمو والتقدم إلى الدرجة التي تجعلها قادرة على منافسة المارد الأمريكي . ثم تتطرق ‏الوثيقة إلى الحديث عن السبيل الذي يجب على أميركا أن تسلكه من أجل أن تمنع أوروبا من أن تتحول إلى قوة عالمية ، وأخيراً السبيل للحيلولة دون تنامي وتطور القوة الإسلامية بحيث تصبح قوة عالمية منافسة .
والحديث في هذه الوثيقة البنتاغونية جاء بالتحديد حول منطقة الشرق الأوسط ، حيث تقع بلدان العالم الإسلامي ، وقد جاء في هذا المجال أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تسعى من أجل أن لا يقفز إلى سدة الحكم من تسمّيهم ‏الوثيقة بـ ( الأصوليين‏ ) . وعلى هذا فإن الذي يستشف من هذه الوثيقة أن هناك قراراً أمريكياً واضحاً لا لبس فيه بأن لا تظهر إلى الوجود حكومة إسلامية ثورية في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي ، ولذلك لابد أن تكون‏كل مخططات البنتاغون سائدة في منحى منع ( الأصوليين‏ ) من الوصول إلى الحكم .
والسّر في هذا الحرص الأمريكي الشديد على الوقوف في وجه الإسلاميين ومنعهم من الوصول إلى السلطة ، هو أن ‏بلدان العالم الإسلامي متجاورة مع بعضها ، فإذا ما شكلت حكومة إسلامية في بلد منه فإن هذا يعني تبلور القوة الإسلامية العظمى التي يحسب لهما الغرب ألف حساب ، ولذلك فإن أميركا تخشى بروز هذه القوة الجبارة التي ستضحى‏ خطراً عظيماً يهدد الحضارة الغربية الجاهلية!!

الهلع الأمريكي من الشرق الأوسط

وهناك وثيقة أخرى حول نزع السلاح عن منطقة الشرق الأوسط ، ويدور موضوع هذه الوثيقة حول السبل الكفيلة بمنع دول الشرق الأوسط من امتلاك الأسلحة الاستراتيجية ، ومما جاء فيها أن هناك جهوداً أمريكية جبارة بذلت من ‏أجل منع بلدان الشرق الأوسط ـ عدا إسرائيل ـ من امتلاك أسلحة التدمير الشامل ، وقد عبّرت الوثيقة عن المنع هذا ؛ج‏جّ‏ّب( الضبط ) أي بحث الطرق والوسائل التي تدفع هذه البلدان إلى الانضباط ضمن أطر سياساتهم التسليحية .
وقد عملت أميركا في هذا المجال على دعوة الدول الخمس العظمى في العالم التي تتولى عملية تصدير الأسلحة إلى سائر بلدان العالم ، وهي روسيا ، والصين ، وفرنسا ، وبريطانيا بالإضافة إلى أميركا نفسها إلى الاجتماع والتشاور فيما بينها ، وقد أسفر هذا الاجتماع عن تشكيل لجنة يشرف عليها وزير الخارجية الأمريكي نفسه ، وقرر المجتمعون في هذه اللجنة العمل‏من أجل الحيلولة دون أن تتسلح دول العالم الأخرى بالأسلحة الذرية ، أو الكيمياوية ، أو الصواريخ البالستية ؛ بل و قرروا أيضاً العمل على تدمير الأسلحة الإضافية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط المتأزمة ، والتي تهدد الاستقرار ـ على حد تعبيرهم ـ علماً أننا لا نعرف ما هو هذا الاستقرار الذي يريدونه ، أهو استقرار أميركا ، أم روسيا ، أم‏أوروبا ؟!
ومن المعلوم أنهم عندما يتحدّثون عن منطقة الشرق الأوسط فإنهم يستثنون من ذلك ( إسرائيل‏ ) التي باتت‏اليوم تمتلك قنابل نووية بالإضافة إلى عشرات الرؤوس النووية ومئات الصواريخ الإستراتيجية ، كما أنهم يريدون من‏المناطق المتأزمة بلداننا الإسلامية .

حقيقة الهلع الاستعماري‏

ترى ما السر في هذه القائمة على الهلع ، وانعدام الثقة ، ولماذا لا يخشون ـ مثلاً ـ من امتلاك الصين ، أو روسيا ، أو إسرائيل ، أو جنوب أفريقيا للأسلحة النووية ، بينما يتهيّبون من أن امتلاك المسلمين ولو لجزء ضئيل منها ؟
إن السر في ذلك هو أن الدول الغربية قد استرقتنا ، واعتبر الغربيون أنفسهم سادة ، واعتبرونا نحن المسلمين عبيداً لهم ،فهم يعتبرون أنفسهم أوصياء علينا ، إذ أيقنوا وعرفوا أن الأمة الوحيدة التي من الممكن أن تتحول في يوم من الأيام إلى ‏قوة عالمية عظمى تجرف كياناتهم ، وتدمّر بنيانهم هي الأمة الإسلامية بما تمتلكه من خلفية حضارية وتاريخية مجيدة وعريقة ، وما تستند إليه من قيم حضارية مشرقة بفضل كتابها المقدّس ، القرآن الكريم ، ولما لها من القابلية على التوسّع‏ والامتداد إلى آفاق الأرض ، واستيعاب البشرية مهما كانت جنسياتها وألوانها ولغاتها . وهذا هو سر إمكانية تحولها إلى‏قوة عالمية جبارة ، وبعد ذلك كلّه ما تملكه هذه الأمة من قيم جهادية وتضحوية تفتقر إليها سائر الأمم ، علماً أن هذه ‏القيم هي سر بقائها وعزتها ورفعتها .
وعلى هذا ؛ فإن ما يخشاه الأمريكيون ومن يدور في فلكهم من الغربيين هو بروز القوة الإسلامية العظمى في منطقة الشرق الأوسط .

الوجه الآخر للحضارة الغربية

والحقيقة التي هي على غاية من الأهمية والدقة ، والتي يجدر بنا أن ندركها نحن العاملين في الساحة ، ونرتفع إلى مستواها ،هي أن الحضارة الغربية رغم كونها حضارة متطورة ، ولها من السبق التقني ، والمنهجية العقلية الراقية ما لا تمتلكه الأمم ‏المعاصرة الأخرى ، إلا أن هناك مجموعة من العادات ، والتقاليد ، والممارسات الجاهلية التي يندى لها جبين التأريخ ‏الإنساني تتكرس في كيان هذه الحضارة ؛ على الرغم من تلك النقاط المشعة التي تتميّز بها الحضارة الأميريكية والغربية من تطور تكنولوجي وصناعي متفوق ، وأن لديهم من القيم الحضارية الراقية ما يزيد تلك النقاط إشعاعاً لتعاونهم ،وانسجامهم ، واجتهادهم في العمل ، وإخلاصهم . . . إلا أن رائحة الجاهلية المقيتة تفوح من عقليتهم ، وتفكيرهم ، حيث‏ينطلقون في تعاملهم مع سائر الأمم من منطلق تلك القيم الجاهلية التي تستحوذ على عقلياتهم .
فطموحات السيطرة والاستغلال والنهب في الحروب يجعلهم يدوسون كل قيمة إنسانية نبيلة تحت أقدامهم ، والدليل‏على ذلك ما فعلوه وارتكبوه هم وأذنابهم بحق الكثير من شعوب الأرض التي رزحت لفترات طويلة تحت نير تسلّطهم ، أليس هم الذين ذبحوا الآلاف المؤلفة من أبناء الشعب الفيتنامي ، وارتكبوا المجازر الجماعية ضدهم بكل‏ صلافة ووقاحة ، و أليس هم الذين أبادوا ثلاثة ملايين إنسان في كمبوديا ، ثم أليس من جاهليتهم أنهم ينافقون في‏تعاملهم ، ويخونون ويكذبون ويغدرون ؟؟ وكل هذه الصفات الرذيلة يعتبرونها من أسباب قوتهم ، وتسلطهم على‏الآخرين .

تأثيرات الحضارة الإسلامية

وإذا ما وجدنا لديهم بعض القيم الحضارية السامية التي يتعاملون بها فيما بينهم ، كالصدق ، والتعاون ، والإخلاص ،والتفاني ، فإن ذلك إنما استوحوه من المسلمين ، وقرآنهم ، وحضارتهم الرسالية العريقة بشهادة مؤرخيهم ، وفلاسفتهم ،ومفكّريهم ؛ ولا أحد يستطيع في هذا المجال إنكار حقيقة أن مذهب الرفض المسيحي ( البروتستانتية ) الذي‏ أسسه وتزعمه ( مارتن لوثر ) قد تأثر إلى حد كبير بموجة المعارف والقيم والآداب الإسلامية الرفيعة ، حيث‏ يؤكد الجميع على أن هذا المذهب يشبه إلى حدّ كبير المذهب الشيعي في إطار المذاهب الإسلامية . فهو مذهب توحيدي ، استوحى أفكاره وقيمه ومنهجيته من روح الإسلام ؛ صحيح أنه مذهب مسيحي ، ولكنه ـ في واقعه ـ يمثل حركة إصلاحية في المسيحية ، فهو يرفض مبدأ ( التثليث‏ ) في العبادة ، ويدعو إلى الوحدانية .
هذه حقيقة تاريخية لا يمكن أن تنكر ، وهناك حقيقة تاريخية أخرى تكمل الأولى ، وهي أن الحضارة الغربية نشأت من‏بعد ظهور الحركة الإصلاحية البروتستانتية التي تفجرت في أوروبا ، والتي هي بدورها وليدة الحضارة الإسلامية .
وعلى هذا الأساس ؛ فإن كل ما لدى الغرب من قيم فاضلة نبيلة وحضارة وتقدم وازدهار إنما هو مستوحى ـ في‏الأصل ـ ومكتسب من الانبعاث الإسلامي ، وإشراقة أشعته على ربوعهم ، وحضارة الأندلس الإسلامية هي خيرشاهد ودليل على ذلك ، وقد كان مذهب الرفض المسيحي هو السبب والوسيلة التي نقلت إلى الغربيين القيم الإسلامية ، والروح القرآنية الناهضة .
والشعب الأميريكي يدين في مسيحيته بالمذهب البروتستاني ، ويلزم أن يكون رئيس الجمهورية من اتباع هذا المذهب لا من اتباع المذاهب المسيحية الأخرى كالكاثوليكية ، والارثوذوكسية ، وسائر المذاهب الأخرى .

التأثيرات السلبية للحضارة اليونانية

وما نجده اليوم من قيم جاهلية فضة ، وأفكار عدوانية ، وظلم وعنصرية ، وبعض المعتقدات اليهودية ، كالاعتقاد بأنهم ‏شعب اللَّه المختار وما إلى ذلك من أفكار خرافية ، فإن كل ذلك من آثار الفلسفة اليونانية التي كانوا يعتقدون بها ، والتي‏ عكّرت صفو مذهبهم ؛ حيث خلطوا السم بالعسل ، فامتزجت قيمهم الحضارية الرفيعة برواسب جاهليتهم اليونانية القديمة ، فأضحوا يعيشون الازدواجية في تعاملهم . ولذلك لم يكن غريباً أن تصدر السلوكيات الهمجية الجاهلية منهم في‏تعاملهم مع الأمم الأخرى في نفس الوقت الذي تسود فيه بينهم روح المدنية المتحضرة والديموقراطية ، حتى راحوايدافعون عن حقوق ( الحيوان‏ ) ويؤسسون الهيئات والمنظمات التي تدافع لذلك .
إن الإنسان الأميريكي والغربي عموماً يعيشان سلوكين ؛ سلوكاً مظلماً قاتماً ، مصدره قيم الحضارة اليونانية ، وسلوكاً مضيئاً أخذ نوره من شمس الإسلام التي أشرقت على أوروبا في عصورها الوسطى . والحضارة اليونانية ـ كما هو معروف ـ هي حضارة الغاب ، وحضارة الوثنية والعنصرية التي ولدت في بيئة قادة عسكريين قساة كانوا يجهزون‏الحملات ، ويشنّون الهجمات على البلدان الأخرى المجاورة لهم فيحطموها ؛ ومثال ذلك الإسكندر المقدوني الذي كان‏يغير على البلدان المختلفة بجيوشه ، فيقتل ، ويذبح ، ويدمر ، ثم يصفق له شعبه تأييداً وموالاةً!
هذا في حين لا توجد في الإسلام أية شائبة من هذا القبيل ، فالإسلام ما رفع سيفاً إلا دفاعاً عن الحق ، ونصرةً للمظلوم ،وإعلاءً كلمة الإسلام ، وكان آخر ما يفكّر فيه هو السيف والقتال حيث لا يجد سبيلاً آخر . فالحضارة الإسلامية نابعة من منهل القرآن العذب النقي ، فهي حضارة مهذبة من كل أثر جاهلي .
ترى لماذا لا نبادر نحن إلى استثمار الجيد الذي نمتلكه ، ولم نخلطه بالردي‏ء الذي كان عندنا أيام الجاهلية الأولى ، أو بمانراه الآن عند الغرب من فساد وانحطاط حضاري ، لنشيّد حضارة عالمية جديدة نقية من كل جوانبها ؟ بالطبع إن هذا شي‏ءٌ مطلوب للغاية ، فلقد استطاع أسلافنا بالأمس القريب أن يشيّدوا تلك الحضارة الرفيعة التي انتشرت في أقاصي‏آسيا ، وأعماق أفريقيا ، وأطراف أوروبا ، فهيمنوا على العالم بقيمهم ومبادئهم الإنسانية .

حضارة الرحمة

إن الغربيين يدركون جيداً أن المسلمين لو انتفضوا ونهضوا من أجل بناء حضارتهم من جديد وملكوا أسرار العلم ،والتقنية ، فإن العالم سوف يتوجه صوبهم ، ويضرب بالحضارة الغربية الهمجية عرض الحائط . فحضارة الإسلام هي ‏حضارة رسالية تعمل على تحرير الإنسان ، وإنقاذه من آلامه ، ومعاناته ، ولعل أفضل ما يمكن أن نصف به هذه الحضارة هو أنها حضارة الرحمة للعالمين ؛ فهي الحضارة الرحيمة والعطوفة على كل إنسان مهما كان لونه ، ولغته ، ودمه ؛ بل وحتى‏عقيدته ومبادئه . فالإسلام كان رحيماً حتى بأعدائه .
ترى أين حضارتنا من حضارتهم الخاوية ، وأين الأصيل النقي من الشائب الهجين ؟ إن حضارتنا هي حضارة الرحمة كما يقول تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ 3، وهي حضارة الحب والسلام والرأفة والمودّة والإخاء والنخوة ، حضارة تتعامل مع الأمم الأخرى انطلاقاً من مبدأ الرحمة الإلهية ، هذا المبدأ الذي خطه لنا رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم بقوله الشريف : ( ما آمن باللَّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جايع‏ ) 4 ، في حين‏أن حضارة الغرب المهيمنة على العالم لا يستشم منها سوى النفاق والخداع والأنانية وتقديم المصالح والمنافع على القيم ‏والمبادئ ؛ بل وجعل القيم والمبادئ الإنسانية الخيرة تحت الأقدام عندما تقتضي ذلك المصالح والمنافع المادية ؛ فهي‏حضارة القتل والدمار والفساد والإفساد والظلم والقسوة والعنصرية البغيضة .

لابد من استعادة مجدنا

وتأسيساً على ما سبق ؛ لابد لنا ـ نحن المسلمين ـ من أن نستعيد مجدنا ، وحضارتنا الرسالية الأصيلة القائمة على أسس ‏العدل والتقوى ، وعلى ركائز القسط والإحسان . ويوم نغدو كذلك ، فسنكون ـ حينئذ ـ أهلاً للغلبة والنصر ودحر حضارة الغرب وهدم بنائها الفاسد . فحريّ بنا ـ إذن ـ أن نعمل جهد إمكاننا ووسعنا لاستعادة ذلك المجد الغابر ، ولنعلم‏أن خير ذلك سوف يعود علينا ، وعلى غيرنا من سائر أبناء البشرية .
فلابد من استنهاض العملاق الإسلامي الحضاري ليقف في وجه الغول الحضاري الغربي ـ إن صح التعبير ـ الذي بات‏يهدد مصير البشرية ، والحياة على الأرض ، وعلى المسلمين أن يواصلوا نهضتهم ، وبالفعل فإننا نقف على مشارف قيام‏الحضارة الإسلامية الجديدة ، فالإسلام يكاد ينهض في كل بقعة تتشرف به .
ومن خلال التوكل على اللَّه وحده ، والثقة به ، والاعتماد على قوته وحوله نستطيع أن نهزم أكبر قوة في الأرض . أما إذا أصبحنا اتكاليين ، نلقي بالمسؤولية على بعضنا البعض ، أو نترك العمل وننتظر من الغربيين أن يفعلوا لنا شيئاً ، فإن ذلك‏وهم وسراب علينا أن ننبذهما جانباً ، وأن نعتمد بدلاً من ذلك على اللَّه جل وعلا من أجل تحرير بلداننا ، مادمنا نحمل‏راية الإسلام التي هي راية العدل والحق والحرية ، مادامت دعوتنا هي دعوة الصدق والخير والإحسان 5 .