الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

حرية الفكر قرار إلهي

 

ليس من حق أحد إلغاء وجود الآخر .
الرسول لم يكلف بإجبار البشر أو الضغط عليهم .
المواجهة الفكرية تكون بالاجتهاد في تبيان الرأي و اثبات صحته .
النبي لم يكن جباراً ولم يمارس الهيمنة على الناس .
اجتهاد الإنسان يخلق الحراك الفكري في المجتمع البشري .
لو كان الاعتقاد بحقانية الرأي ، و الإخلاص للفكرة ، مبرراً مقبولاً للفرض على الآخرين ، و ممارسة الوصاية الفكرية ، لما حظر الله تعالى ذلك على رسله و أنبيائه . فهم يحملون رسالة الله للناس ، و هي حق لا ريب فيه ، و لا يمكن أن يزايد عليهم أحد في الإخلاص للحق و الاجتهاد في نصرته ، و لكن الله تعالى لم يأذن لهم بفرض دعوتهم على الناس قسراً ، ولم يسمح لأحد من أنبيائه و رسله أن يمارس الوصاية و الهيمنة على اتجاهات الناس و اختياراتهم .
حيث ينص القرآن الكريم على أن وظيفة رسل الله تنحصر في حدود إبلاغ الرسالة ، لا فرضها بالقوة ، يقول تعالى : ﴿ ... فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ 1 .
و حين يرفض الناس دعوة الحق ، فإن الرسول يتركهم و شأنهم ، و ليس مكلفًّا بإجبارهم أو الضغط عليهم ، يقول تعالى :
﴿ ... وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 2 .
و قد تكررت هذه العبارة في آيات القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة ، كقوله تعالى : ﴿ ... فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ 3 ، و قوله تعالى : ﴿ ... وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ 4 .
و تنص آيات أخرى في القرآن الكريم على أنه لا يحق للنبي أن يمارس أيَّ وصاية أو هيمنة على أفكار الناس و آرائهم ، يقول تعالى :
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ 5 .
و الخطاب لرسول الله محمد أفضل الأنبياء و الرسل ، الذي بعثه الله تعالى بأكمل الأديان و خاتمها ، بأن وظيفته الإلهية هي الدعوة و التذكير ، و ليس له حق السيطرة و الهيمنة على من لا يقبل دعوته .
و في مورد آخر يخاطب الله تعالى نبيه محمداً الذي كان يؤلمه رفض المشركين لدعوته و اتهاماتهم الباطلة له ، يقول تعالى: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ 6 .
فالنبي ليس جبَّاراً يمارس الهيمنة و الفرض على الناس .
و هو ليس مكلفَّاً بالوصاية و الرقابة عليهم يقول تعالى : ﴿ ... وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا 7 .
و إذا كان الأنبياء المرسلون من قبل الله تعالى ، و هم يحملون الحق الذي لا ريب فيه ، لا يجوز لهم ممارسة الفرض و الوصاية على أفكار الناس ، فهل يا ترى يحقّ لأيِّ جهة أخرى اقتراف هذه الممارسة باسم الربّ و باسم الدين ؟
حروب الرسول كانت دفاعية ولم تكن لفرض الإسلام على الآخرين بقوة السيف .

من يحاسب الناس ؟

ليس هناك جهة مخولة بمحاسبة الناس على أديانهم و معتقداتهم في الدنيا ، فحساب الخلق على الله تعالى يوم القيامة .
ففي الآيات الأخيرة من سورة الغاشية ، و بعد حصر مهمة الرسول في التذكير ، و أنه لا يحق له الهيمنة و السيطرة على الناس ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ 5 ، يقول تعالى : ﴿ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ 8 .
و رغم أن بعض المفسرين عَدَّ الاستثناء ﴿ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ 9 متصلاً بما قبله ، فيكون المعنى ﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ 10 أن لك السيطرة على من تولى و كفر بمجاهدته و مقاتلته ، لكن الرأي الذي يتبناه مفسرون آخرون هو أن الاستثناء منفصل ، لا ربط له بما قبله بل بما بعده . و هذا الرأي هو ما يتناسب مع سياق هذه الآيات ، و مفاد الآيات الأخرى .
و كما تقرر في أبحاث المحققين و الباحثين في السيرة النبوية الشريفة ، فإن حروب رسول الله كانت دفاعية ، ولم تكن لفرض الإسلام على الآخرين بقوة السيف ، و لذلك كان يقبل منهم الجزية و البقاء على أديانهم في ظل الحكم الإسلامي .
و تؤكد آيات أخرى في القرآن الكريم على أن الله تعالى وحده هو الذي يتولى حساب العباد على أديانهم و معتقداتهم ، و ليس الأنبياء و لا أيّ أحد آخر ، منها قوله تعالى : ﴿ ... فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ 11 ، و قوله تعالى : ﴿ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ... 12 .
و في سياق آخر ، حين تتحدث آيات من القرآن الكريم عن تعدد الديانات و اختلاف المعتقدات بين بني البشر ، فإنها تحيل مهمة الحسم و الفصل النهائي بين أتباع الديانات إلى خالق البشر يوم القيامة ، و كأن مفهوم هذه الآيات : أن الحياة الدنيا هي دار تعايش و تعامل بين بني البشر على اختلاف أديانهم و آرائهم ، و ليس من حق أحد منهم أن ينهي و يلغي وجود الآخر ، فذلك من اختصاص الخالق وحده .
يقول تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 13 .
فهل هناك رؤية أجلى من هذه الرؤية ؟ و هل هناك موقف تجاه حرية الاختيار العقدي في الدنيا أوضح من هذا الموقف ؟
و جاء التأكيد على هذه الحقيقة في موارد أخرى ، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 14 . و ضمير ( هو ) في قوله ﴿ ... هُوَ يَفْصِلُ ... 15 ضمير فصل ، لقصر الفصل عليه تعالى دون غيره .
و تعالج آيات أخرى في القرآن الكريم موضوع النزاعات الدينية بدعوة الناس إلى تجاوزها و تجميدها ، حتى لا تكون سبباً للاحتراب و النزاع ، و أن الله تعالى سيقضي في هذه الاختلافات يوم القيامة ، و سيعلم الجميع حكمه و قضاءه في خلافاتهم الدينية .
يقول تعالى : ﴿ ... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 16 .
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي : « فاستبقوا الخيرات و هي الأحكام و التكاليف ، و لا تنشغلوا بأمر هذه الاختلافات التي بينكم و بين غيركم فإن مرجعكم جميعاً إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ، و يحكم بينكم حكماً فصلاً ، و يقضي قضاءً عدلا » .
و قد ورد التعبير ذاته في الآية 164 من سورة الأنعام : ﴿ ... ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 17 .

المواجهة الفكرية

حين يتبنَّى الإنسان رأياً باعتباره حقّاً و صواباً ، و يرفض رأياً آخر باعتباره باطلاً و خطأً ، فإنه غالباً ما يندفع للانتصار للرأي الذي يؤمن به و يسعى لنشره ، كما يهتم بإضعاف جبهة الرأي الآخر ، و بخاصة على مستوى الرأي الديني و المعتقدات الفكرية .
و من المشروع أن يجتهد الإنسان في خدمة متبنياته الفكرية ، فذلك هو ما يخلق الحراك الفكري في المجتمع البشري ، عبر حالة التنافس ، و استثارة العقول ، و كشف ثغرات الآراء ، و إذا لم يهتم أصحاب الآراء بطرح أفكارهم و الدفاع عنها تسود حالة الركود الفكري ، و الجمود المعرفي .
لكن هناك نهجين في الانتصار للرأي :
1 ـ نهج العنف و القمع لأصحاب الرأي الآخر ، بمحاصرتهم و التضييق عليهم ، و التنكيل بهم ، ليتراجعوا عن آرائهم ، و لمنع انتشارها في المجتمع .
2 ـ نهج المواجهة الفكرية. بالاجتهاد في تبيين الرأي و إثبات صحته و أحقيته بالدليل العلمي و البرهان المنطقي ، و نقد الرأي الآخر بكشف نقاط ضعفه ، و مكامن الخطأ فيه ، و إبطال حججه و مستنداته .

نهج الجبابرة

استعمال العنف ضد الرأي الآخر نهج خاطئ فاشل ، فهو مصادرة لحرية الإنسان في أعمق دوائرها ، و انتهاك لأقدس حقوقه و أهمها ، كما أن تجارب التاريخ قد أثبتت فشل أسلوب العنف في القضاء على الفكر و إنهاء الرأي .
و عادة ما يلجأ الجبابرة الظلمة إلى هذا الأسلوب ، حيث يمارسون العنف و القمع ضد أصحاب الرأي الآخر ، حين يكون فيه مساس بمصالح سلطتهم ، أو لأنهم يريدون التظاهر بحماية الدين ، أو لمجرد فرض هيبتهم و تسلطهم و إرعاب الناس .
و من المؤسف أن كثيرين من الحكام في تاريخ الأمة الإسلامية قد سلكوا هذا النهج ، ليس فقط ضد أصحاب الرأي السياسي المعارض ، و إنما ضد الآراء الدينية و الفكرية ، تارة بعنوان الحرب على الزندقة و الإلحاد ، و أخرى بعنوان التصدي للبدع و الأفكار المنحرفة في الساحة الدينية .
لقد رفع الخليفة المهدي العباسي ، الذي حكم الأمة من سنة 158هـ حتى مات سنة 169هـ ، شعار محاربة الزنادقة ، حيث بدأت تنتشر بعض أفكار التشكيك في الدين ، و بدلاً من مواجهتها بالعلم و المنطق ، شهر الحاكم في وجوههم السيف ، و كان هناك تسرع كثير في إراقة الدماء و ممارسة العنف .

استعمال العنف ضد الرأي الآخر يعني مصادرة لحرية الإنسان في أعمق دوائرها

جاء في تاريخ الدولة العباسية للشيخ محمد الخضري بك :
و كان المهدي مغرى بالزنادقة الذين يرفع إليه أمرهم ، فكان دائماً يعاقبهم بالقتل ، و لذلك كانت هذه التهمة في زمنه وسيلة إلى تشفيِّ من يحبُّ أن يتشفىَّ من عدو أو خصم...
كان كاتب الدنيا و أوحد الناس حذقاً و علماً و خبرة الوزير أبو عبيد الله معاوية بن يسار مولى الأشعريين ، و كان متقدماً في صناعته ، و له ترتيبات في الدولة ، و صنف كتاباً في الخراج و هو أول من صنف فيه..
حصل حقد عليه من الربيع الحاجب ، فوشى عليه عند المهدي بأن ابنه محمداً متهم في دينه ، فأمر المهدي بإحضاره ( الولد ) و قال : يا محمد ، اقرأ ، فذهب ليقرأ ، فاستعجم عليه القرآن ، فقال المهدي لأبيه الوزير أبي عبيد الله معاوية بن يسار : يا معاوية ، ألم تخبرني أن ابنك جامع للقرآن ؟ فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، و لكنه فارقني منذ سنين و في هذه المدة نسي القرآن .
فقال المهدي : قم فتقرب إلى الله بدمه . فذهب ليقوم فوقع .
فقال العباس بن محمد : يا أمير المؤمنين إن شئت أن تعفي الشيخ ، ففعل ، و أمر المهدي بابنه فضرب عنقه 18 .
هكذا يكون مجرد الاتهام في الدين ، و الارتباك في قراءة القرآن مبرراً لقتل هذا الإنسان ، و أن يُطلب من أبيه مباشرة عملية القتل!! .
و خلفاء آخرون مارسوا العنف و القمع تجاه من يقولون برأي مخالف في مسألة عقدية جزئية ، كما حصل فيما عرف بمحنة القول بخلق القرآن .
فقد كان الخليفة هارون الرشيد يتبنى مقولة أن القرآن ليس مخلوقاً ، و يقمع القائلين بفكرة خلق القرآن ، حتى قال يوماً : بلغني أن بشر المريسي يقول : القرآن مخلوق . والله والله لئن أظفرني الله به لاقتلنه قتلة ما قتلها أحد . و لما علم بشر ظل متوارياً أيام الرشيد .
و قال بعضهم : دخلت على الرشيد و بين يديه رجل مضروب العنق ، و السياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول ، فقال الرشيد : قتلته لأنه قال : القرآن مخلوق .
و في عهد الخليفة الواثق العباسي تغيَّر رأي الحاكم ، فتعرَّض من يقول بأن القرآن ليس مخلوقاً للقتل و التنكيل ، كما حصل لأحمد بن نصر الخزاعي الذي قبض عليه والي بغداد ، و امتحنه الواثق فأصر على رأيه أن القرآن ليس بمخلوق ، و أن الله يُرى في الآخرة ، فدعا الخليفة بالسيف ، و قال : إني احتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربّاً لا نعبده ، و ضرب عنقه ، و أمر به فحمل رأسه فنصب بالجانب الشرقي أياماً ، ثم بالجانب الغربي أياماً ، و علقت برأسه ورقة « هذا رأس أحمد بن نصر الذي دعاه الإمام الواثق إلى القول بخلق القرآن و نفي التشبيه ، فأبى إلا المعاندة ، فعجل الله به إلى ناره »19 20 .