حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
هل يحتاج الغرب إلى هوية؟
يذكر صمويل هنتنغتون في كتابه (صدام الحضارات) إن في منتصف التسعينيات من القرن العشرين ظهرت مناقشات جديدة حول طبيعة ومستقبل الغرب، وأخذ الأمريكيون يناقشون حول طبيعة هويتهم وهل هم غربيون أم هم شيء آخر؟ وهل تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن غربيتها ؟ وهل رفض العقيدة والحضارة الغربية يعني نهاية الولايات المتحدة، أو أن مصير الحضارة الغربية معلق على مصير الولايات المتحدة؟
لا شك أن هذه من أخطر التساؤلات التي يطرحها الغرب على نفسه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد دخلت هذه التساؤلات في مجال التداول الفكري والسياسي هناك، وحرضت على نقاشات ثقافية شديدة الحساسية. فلم تكن هذه التساؤلات من نوع التساؤلات الساذجة، أو التي تفتقد للدهشة، كما لم تكن من التساؤلات التي تظل في الهامش ولا تحرك ساكناً، فقد تحولت إلى تساؤلات لاستشراف مستقبل الغرب ومصير الحضارة الغربية.
ومن طبيعة هذه التساؤلات حين تطرح فإن أجلها لا يكون قصيراً، وإنما تظل مفتوحة، ومن الصعب أن تكون الإجابات عليها حاسمة ونهائية، خصوصاً في الغرب المفعم بالنقاشات النقدية، ومع انبعاث تيار ما بعد الحداثة ارتفعت وتيرة وحدية تلك النقاشات النقدية.
وغياب التهديد السوفيتي وانهيار معقله ومعسكره الشرقي، وتصدع عقيدته وإيديولوجيته الماركسية كان باعثاً على طرح هذا النمط من التساؤلات، فقد عكس غياب ذلك التهديد كما يقول هنتنغتون القلق حول مستقبل وحدة الغرب، كما أن مقولة الفيلسوف الياباني تاسكيشي أوموهارا كانت ماثلة أمام الغرب، وحاضرة في ذلك النقاش، وفي هذا السياق استشهد بها هنتنغتون، حيث اعتبر أوموهارا أن انهيار الإتحاد السوفيتي هو النذير الوحيد فقط لانهيار الليبرالية الغربية، فالليبرالية ستكون التالية للسقوط.
يضاف إلى تلك البواعث مخاوف البعض في أن العرب إذا تلفت باحثا، عن بديل يقف إزاءه ولم يجده كلما ضعف إحساسه بالهوية التي يمكن أن ينتهي إليها، وقد سبق لروزا لوكسمبرغ كما يذكر تيري إيجلتون أن تصورت الإمبريالية وهي تمتد إلى الحد الذي لا يعود فيها مناطق تفتحها فتبدأ بالانفجار على ذاتها. وهذا ما يفسر ظهور مقولات من نمط البحث عن عدو جديد، وصدام الحضارات، والشرق في مواجهة الغرب إلى غير ذلك. ولعل المكوّن الفكري والتاريخي لهذا الإحساس هو أن الغرب محكوماً بذهنية الصدام والنزاع والتسابق والتنافس، وهذا ما عبرت عنه بعض الفلسفات الكبرى التي تأثر منها الغرب بصورة عميقة، ومن هذه الفلسفات صراع البقاء عند دارون، وقانون التناقض عند هيغل، والصراع الطبقي عند ماركس، ونظرية القوة عند نيتشه، وغيرها أيضاً.
وأمام سؤال الهوية، هل يحتاج الغرب إلى هوية خاصة به؟ أم أنه وصل إلى مرحلة ما بعد الهوية، بحيث لم تعد هذه الهوية تمثل ضرورة، ولا تبعث على قلق، وأنه قد تجاوز تلك المرحلة التي يجعل نفسه مؤطرا في هوية، هو أكبر من أن يضيق نفسه فيها، ولم يعد بحاجة إليها فقد أصبح العالم كله تحت تأثيراته وتموجاته، وهو الذي يؤثر على العالم ولا يتأثر منه!
ومن الإجابات المثيرة للجدل في هذا الشأن ما طرحه الكاتب والناقد البريطاني تيري إيجلتون في كتابه (فكرة الثقافة) الصادر عام2000م، حيث أراد أن يطمئن الغرب على ذاته، وعلى مصير حضارته ومستقبله في العالم، وأن لا خشية على هذه الهوية حسب رأيه في داخل الغرب ومحيطه، وهكذا في إطار علاقته بالعالم. وذلك من جهتين، من جهة أنه لا يحتاج لمثل هذه الهوية، ومن جهة أن لا خشية على هذه الهوية. وعن الجهة الأولى يقول إجلتون فالغرب ليس له هوية مميزة خاصة به، لأنه لا يحتاج إلى مثل هذه الهوية. ويبرر ذلك بقوله فمن جماليات أن تكون حاكما ألا تحتاج لأن تقلق حيال هويتك، وأن تعتقد ولو بصورة خادعة أو مضللة أنك تعرف مسبقاً من أنت. ذلك أن الثقافات الأخرى والكلام لإجلتون، هي المختلفة، في حين أن شكلك الحياتي هو المقياس الذي نادراً ما يمثل ثقافة أيما ثقافة، فهو بالأحرى ذلك المعيار الذي يظهر الأشكال الحياتية الأخرى على أنها ثقافات بعينها بكل فرادتها الساحرة أو المهددة. وأما من جهة تبرير عدم الخشية على هذه الهوية يقول إيجلتون أن لا حاجة بالغرب لأن يخشى على هويته بعد الآن، ذلك أن كوننة ثقافته الخاصة تنطوي على الدفاع عن هذه الهوية إزاء الخارجين البرابرة، فضلا عن انطوائها على تحطيم أنظمة الحكم التي تجرؤ على تحدي سيطرتها، والثقافة الغربية كما يضيف إيجلتون كونية بالقوة أو بالامكان، الأمر الذي يعني أنها لا تضع قيمها قبالة قيم الآخرين أو تعارضها معها، بل تكتفي بأن تذكرهم بأن قيمهم الخاصة هي قيمهم أيضاً في جوهر الأمر.
والحقيقة أن هذا لا ينفي الخشية بقدر ما يؤكدها لأن الغرب بدأ يتغير على ذاته من جهة، ولأن العالم بدأ يتغير على الغرب من جهة أخرى1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ، العدد 13612.