الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المسلمون في المجتمعات غير الاسلامية.. وجدلية الهوية والانتماء

على مستوى النظر، يمكن أن نلمس كيف تغيرت نظرة المسلمين إلى أنفسهم، وحاضرهم مستقبلهم في مجتمعاتهم غير الإسلامية، وذلك حين نقارب بين محاولتين فكريتين كانتا لهما أهمية وتأثير في تشكيل رؤية المسلمين لأنفسهم في بلاد البلقان، في زمنين مختلفين، زمن ينتمي إلى حقبة الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين، حين دعا الدكتور علي عزت بيجوفيتش، في المقالات التي نشرها آنذاك بمجلة جمعية العلماء في يوغسلافيا، إلى ما اسماه (الإعلان الإسلامي)، في كتابه الذي حمل هذا العنوان، والصادر عام 1981م. وزمن ينتمي إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، وإلى ما بعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر، حين دعا الدكتور مصطفى تسيريتش رئيس هيئة العلماء في البوسنة والهرسك،  إلى إعلان إسلامي آخر، أطلق عليه (إعلان المسلمين الأوروبيين).

في الإعلان الأول، كان بيجوفيتش ناظراً إلى اندماج المسلمين هناك بالعالم الإسلامي، ورابطاً مصيرهم بمصير الأمة الإسلامية، ونهضتهم بنهضة العالم الإسلامي، على قاعدة الاشتراك في الهوية.

وفي الإعلان الثاني كان تسيريتش، ناظراً إلى اندماج المسلمين هناك بمحيطهم الأوروبي، على قاعدة المواطنة والعقد الاجتماعي والسياسي. فقد جاء هذا النداء الثاني موجهاً باسم المسلمين الأوروبيين إلى الإتحاد الأوروبي، داعياً على عقد اجتماعي يؤسس لعلاقة المواطنة في إطار الاحتفاظ بالهوية، حيث تضمن كما يقول تسيريتش: أن المسلمين الأوروبيين ملتزمين بالكامل وبشكل صريح بحكم القانون العادل، ومبادئ التسامح، وقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وبالاعتقاد أن كل إنسان له الحق في أن تصان حقوقه الضرورية الخمسة، وهي: النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض. ويأمل تسيريتش من هذا الإعلان، في أن يشجع الأوروبيين على الاعتراف الرسمي بالإسلام والمؤسسات الإسلامية في أوروبا، وحمايتهم من جرائم التطهير العرقي، والإبادة الجماعية.

تكشف هذه المفارقة، بين هذين الإعلانين عن جدلية الهوية والانتماء، وطبيعة التطور التراكمي في تجدد الفهم لهذه الجدلية، التي لها طبيعة الحضور الملح. بمعنى أن وضعيات المسلمين في مجتمعاتهم غير الإسلامية، كان لابد لها أن تتطور مع مرور الوقت نحو الاقتراب والإلتفات لمسألة المواطنة، بوصفها إطاراً لتحسين أحوالهم العامة، ومدخلاً للمطالبة بحقهم في المشاركة السياسية، ومساواتهم مع جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، وتأكيداً لرغبتهم في التفاهم والتعايش، مع مختلف مكونات التعدد والتنوع العرقي والقومي، اللغوي واللساني، الديني والمذهبي في مجتمعاتهم.

وعلى خلفية أن الهوية لا تتعارض أو تتصادم مع مفهوم المواطنة، وبالتالي فإن الهوية لا ينبغي أن تتحول إلى عامل يدفع نحو الانغلاق والانكفاء على الذات، أو الممانعة عن التفاعل والمشاركة السياسية، وفي قضايا الشأن العام.

كما لا ينبغي أن تتحول الهوية إلى عامل يدفع نحو القطيعة أو الصدام، أو العزلة بكافة صورها الشعورية والحسية، وهجران الآخرين تحت أي ذريعة كانت، إلا في ظل أسباب قاهرة من الصعب التحكم بها، وهي التي يقررها العقلاء.

فحماية الهوية ليس بالعزلة أو الانغلاق، وكقانون عام لا يمكن أساساً حماية الهويات، مهما كانت طبيعتها وبنيتها ومكوناتها بالعزلة أو الانغلاق، لأن العزلة تؤدي إلى ضمور الهويات وتكلسها من الداخل، وقد تؤدي إلى تفتتها واضمحلالها إذا استمرت هذه العزلة لفترة طويلة، ويمكن أن تؤدي كذلك إلى ظهور انحرافات وانقلابات جوهرية فيها.

وهذا بخلاف التواصل والانفتاح الرشيد الذي يتيح للهويات، فرص النمو والانطلاق، وإمكانيات التجدد والنهوض، وهي الملامح والبواعث التي لا تتشكل ولا تظهر في ظل وضعيات العزلة والانغلاق، وهي الوضعيات التي تكون فيها الهويات، محكومة بذهنية الخوف والشك، والتعلق بالماضي، والتشبث بالتراث.

ويفترض أن يشجع اقتراب المسلمين من مفهوم المواطنة، حكومات هذه الدول ومجتمعاتها غير المسلمة، في المزيد من التواصل والانفتاح على المسلمين، وفتح فرص المشاركة لهم، وتفهم حقوقهم ومطالبهم، لتعزيز الاندماج الوطني، وترسيخ تماسك النسيج المجتمعي، وتقوية هذا الحس الوطني عند المسلمين، وتشجيعهم على مواصلة التواصل والانفتاح، والمزيد من المشاركة1

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 1427هـ / 6 ديسمبر 2006م، العدد 14711.